1- العمليات الإرهابية ومرسوم النقاب
أصدر رئيس الحكومة التونسي يوم 5 تموز/ يوليو الجاري مرسوما تحت عنوان "حول حسن تطبيق إجراءات السلامة بمقرات الهياكل العمومية"، جاء فيه:
"في إطار الحفاظ على الأمن العام وحسن سير المرافق العمومية، وضمان التطبيق الأمثل لمتطلبات السلامة، يتعين اتخاذ الإجراءات الضرورية قصد منع أي شخص غير مكشوف الوجه من دخول مقرات الهياكل التابعة لكم، وعليه فإنكم مدعوون إلى الحرص على تطبيق أحكام هذا المنشور وتعميمه على الهياكل العمومية التابعة لكم، وإسداء التعليمات اللازمة لإحكام تنفيذ مقتضياته والتقيد بها".
للتذكير، فإن هذا المرسوم قد جاء على خلفية ما شهدته تونس يوم الخميس 27 حزيران/ يونيو من عمليتين إرهابيتين بالعاصمة، وما شهدته يوم 2 تموز/ يوليو من عملية تفجير الشاب أيمن السميري نفسه أثناء عملية مطاردة أمنية، وقيل إنه كان متسترا بنقاب امرأة.
2- ردود الفعل بين السياسة والسلامة
ردود الفعل على مرسوم رئيس الحكومة كانت في الغالب مؤيدة لدوافع أمنية وأخرى سياسية، فعموم التونسيين لا تعنيهم الديمقراطية والحريات الشخصية؛ بقدر ما يعنيهم أمانهم وسلامتهم واطمئنانهم على أفراد أسرهم، لذلك هم يباركون أي إجراء يضمن لهم قدرا من السلامة والأمان.. عموم التونسيين هم دائما مع السلطة المقتدرة، تماما كما حصل عند اقتدار بورقيبة وبن علي على عزل حركة الاتجاه الإسلامي والنهضة لاحقا عن الساحة السياسية والمجتمعية؛ بدعوى أنها حركة دينية وتهدد النمط التونسي.
عموم التونسيين هم دائما مع السلطة المقتدرة، تماما كما حصل عند اقتدار بورقيبة وبن علي على عزل حركة الاتجاه الإسلامي والنهضة لاحقا عن الساحة السياسية والمجتمعية؛ بدعوى أنها حركة دينية وتهدد النمط التونسي
الأحزاب والحركات السياسية لم تعترض على المرسوم، بل إنها عبرت عن دعمها له؛ لا بسبب كونها ضد النقاب بإحالاته الأيديولوجية أو أنها مع الحداثة وتصور مختلف للمرأة ولباسها، وإنما بدافع "النأي بالنفس" عن منطقة ملغومة قد يرتد عليهم أي موقف معارض للمرسوم الحكومي؛ فيُتهَمون بدعم الإرهاب ومعاداة الحداثة والتقدمية.
حركة النهضة، كبرى الحركات الإسلامية وأكبر الأحزاب السياسية، لم تعترض على المرسوم، بل عبّرت عن "تفهمها" لدواعي إصداره.
وللتذكير، فإن حركة النهضة كان لها موقف مختلف إبان أزمة المنقبات في كلية أداب منوبة عند تعرضهن للتضييق من قبل عميد الكلية يومها، وقد جاء في بيان الحركة بتاريخ 5 كانون الثاني/ يناير 2012: "تعبر حركة النهضة عن انشغالها واستيائها الشديدين لعودة التوتر إلى عدد من الأماكن في البلاد، وخصوصا كلية الآداب بمنوبة، على خلفية منع طالبات منقبات من إجراء الامتحان". كما جاء في نفس البيان: "تأكيدها حق الأفراد وحريّتهم في اختيار اللباس ونمط الحياة الذي يرتضونه في إطار الآداب العامة وعدم الإكراه".
حركة النهضة كان لها موقف مختلف إبان أزمة المنقبات في كلية أداب منوبة عند تعرضهن للتضييق من قبل عميد الكلية يومها
هذا البيان كان أثناء حكم الترويكا، والنهضة محوره الأساسي، وكانت تعلم أن خصومها يستهدفونها من خلال تيار متدين قريب منها، وهو التيار السلفي الذي لعب شبابه دورا هاما في التصدي لكثير من محاولات التخريب في العامين الأولين من حكم النهضة، قبل أن تُصنفهم هي نفسها عن طريق وزيرها الداخلية؛ "جماعة إرهابية" بضغط من المعارضة واتحاد الشغل.
مرسوم رئاسة الحكومة جاء في ظرف أمني "قلق"، ولكن أيضا جاء في زمن انتخابي يسعى فيه كل طرف إلى لعب كل الأوراق المُربحة؛ مربحة له ومهلكة لخصومه ومنافسيه.
مرسوم "النقاب" لا يخلو من خلفيات سياسية، فهو مرسوم محرج لحركة النهضة بالدرجة الأولى، فهي خاسرة في الحالتين؛ فإما أن تعترض على المرسوم فتتعرض إلى حملات إدانة واتهام بكونها حركة دينية وعلى علاقة بالتيار السلفي، وإما أن تساند المرسوم فتتعرض إلى غضب كثير من العائلات المحافظة، وخاصة عائلات الشباب السلفي، فلا تصوت لها. وثمة أخبار عن كون الشباب السلفي أدرك أهمية مشاركته في الانتخابات القادمة لصالح أسماء قد تدافع عن حرياتهم في اللباس والنشاط.
مرسوم "النقاب" لا يخلو من خلفيات سياسية، فهو مرسوم محرج لحركة النهضة بالدرجة الأولى، فهي خاسرة في الحالتين
3- المرسوم بين الأمني والحقوقي
في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية، قال رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان جمال مسلم: "نحن في الأصل مع حرية اللباس، ولكن اليوم ومع الظرف الحالي والتهديدات الإرهابية في تونس وفي المنطقة؛ نجد مبررا لهذا القرار".
بيد أن مسلم أكد أن هذا القرار يجب أن يكون ظرفيا، ويجب أن لا يستمر إثر عودة الوضع الأمني إلى حالته الطبيعية".
هذا الموقف يبدو منطقيا ومتوازنا، فالإجراءات الأمنية الاستثنائية مرتبطة زمنيا بفترة التوتر الأمني، ويجب أن تكون ظرفية فلا تتحول إلى قوانين.
بعض الوجوه الحقوقية، ومنهم يساريون، عبروا عن كون المرسوم لا يخلو من خلفية سياسية، ورأوا فيها تهديدا للحرية الشخصية.
صلاح الدين الجورشي، الإعلامي الحقوقي، والذي هو ابن التيار الاسلامي، كتب في الموضوع في موقع "عربي21"، ليختم مقاله بالقول: "بعد منع دخول المنقبات المؤسسات العمومية دون أن يثير ذلك اعتراضا مجتمعيا، أصبح المناخ ملائما للتفكير في مدى شرعية هذا الزي، وتأثيراته المتعددة والسلبية على شخصية المرأة ودورها داخل الفضاء الأسري وخارجه، والتفكير جديا حول تحول هذا الشكل بالذات من اللباس إلى مقياس للتقرب من الله، رغم أن النصوص الدينية تعطي مجالا أكثر تحررا وأوسع تأويلا. ألا يدل ذلك على أن النقاب تحول في الأخير إلى "سلاح سياسي" لإضعاف الدولة وتهديد الأمن القومي؟".
الموضوع هو موضوع حرية شخصية، ونحن نزعم أننا في زمن ثورة الحرية والكرامة، وفي مرحلة التدرب على إقامة دولة مدنية يستوي فيها المواطنون
يعلم السيد صلاح الدين الجورشي أن مسألة "النقاب" لم يتعرض لها مرسوم رئيس الحكومة من منطلق شرعي، وإنما من منطلق أمني، ودائما التبريرات الأمنية تحتاج مرافقة حقوقية حتى لا تتجاوز السلطة المنسوب الأمني الضروري نحو الاستبداد المشتهى.
الموضوع هو موضوع حرية شخصية، ونحن نزعم أننا في زمن ثورة الحرية والكرامة، وفي مرحلة التدرب على إقامة دولة مدنية يستوي فيها المواطنون في عنوان المواطنة، وما تستدعيه من حقوق وواجبات.
لجوء السيد الجورشي للآلية الفقهية في طرح سؤال "النقاب"؛ سيجعل آخرين يطرحون عليه سؤالا حول الموقف الفقهي من مظاهر اجتماعية وسلوكية عديدة، مثل المثلية الجنسية، وفتح الحانات في رمضان، والألبسة الخليعة في الأماكن العامة، وتناول حبوب الهلوسة والاتجار بها، وغيرها مما تعج به البلاد ويُدرج ضمن قبول الاختلاف والأقليات والتنوع والحريات الشخصية.
الإرهاب، فهو ليس قرين لباس محدد، إنما هو قرين تصور معين للحياة وللدين وللإنسان وللوطن وللحرية، وهذا يحتاج ثورة فكرية لا تكتفي بإزالة لباس الوجه، وإنما تعمل على إزالة المفاهيم الخاطئة
ومجتمعنا الذي قبل، وتحت عنوان الحرية والمدنية، بمختلف المظاهر المخالفة للشرع؛ لا يمكن أن يرفض ظواهر تقول إنها من الشرع، فالنقاب ظاهرة تاريخية في مجتمعاتنا الإسلامية؛ لم يُنظر إليه لا على أنه ضد القانون والحرية، ولا على أنه ضد العقل والشرع، فلماذا تضيق به دولة تقول أنها في زمن الثورة والديمقراطية؟
أما عن الإرهاب، فهو ليس قرين لباس محدد، إنما هو قرين تصور معين للحياة وللدين وللإنسان وللوطن وللحرية، وهذا يحتاج ثورة فكرية لا تكتفي بإزالة لباس الوجه، وإنما تعمل على إزالة المفاهيم الخاطئة والتصورات السيئة والمشاعر العدوانية نحو الآخرين.
أعتقد أن مبدأ الحرية يسع الجميع، وهو الأصل، أما الإجراءات الأمنية فهي استثناء، وهي من اختصاص رئيس الجمهورية، وأما سن القوانين فهو من اختصاص البرلمان، ولا أدري كيف لا يناقش مرسوم رئيس الحكومة مناقشة قانونية؟