يشتد التنافس بشكل محموم مؤخراً بين دول حوض شرق البحر التوسط حول الثروات التي يكتنزها باطن الأرض هناك من غاز وبترول من جهة، وحول خطوط استخراج هذه الثروات ونقلها إلى أوروبا والأسواق العالمية من جهة أخرى. وفي ظل الخلاف القائم حول الحدود البحرية والحقوق السيادية بين عدد من دول الحوض، يزداد الأمر تعقيداً مع توجّه بعض هذه الدول لاسيما
قبرص اليونانية واليونان إلى إنشاء أمر واقع في المنطقة يتجاوز الحقوق التركية، ويهدد بإمكانية اندلاع صدام إقليمي.
أصل التنافس يعود إلى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، حيث تمّ اكتشاف احتياطات مهمّة من الغاز قبالة سواحل إسرائيل، ثم ما لبثت الشركات العالمية للتنقيب عن النفط والغاز أن تكاثرت كالفطر للبحث عن احتياطات مماثلة في المنطقة. وخلال العقد الماضي، نشطت دول الحوض في تلزيم الشركات الأجنبيّة للبحث والتنقيب عن النفط والغاز قابلة سواحلها الإقليمية وحصلت اكتشافات مهمّة قبالة سواحل إسرائيل ومصر وقبرص اليونانية.
وبالرغم من أنّ الخلاف على الحدود البحرية كان قائماً بين عدد منهم، إلاّ أنّه غالباً ما كان يتم تجنّب البحث في المناطق الخلافية. وفي بعض الحالات، كانت بعض الأطراف تقدّم تنازلات إلى الدول الأخرى لأغراض سياسية، كما تمّ في الحالة المصرية على سبيل المثال، حيث تنازل النظام المصري (نظام السيسي) عن حقوق مصرية لإسرائيل ولقبرص ولليونان من أجل الحصول على دعم لشرعيّته السياسية.
الخلاف الحدودي البحري الأبرز في المنطقة كان ولا يزال يتعلق بتركيا واليونان من جهة، وتركيا وقبرص من جهة ثانية، وقبرص التركية وقبرص اليونانية من جهة ثالثة. لكن هذا الخلاف الذي ظلّ نائماً لعقود طويلة، استفاق في السنوات الأخيرة على سياسة قبرصيّة-يونانية تهدف إلى إقامة أمر واقع في المنطقة لناحية استثمار الثروات في المناطق المتنازع عليها بمعزل عن حقوق قبرص التركية والمواطنين القبارصة الذين يعيشون هناك.
ولمّا لم تكن الأخيرة دولة معترفا بها دولياً، قرّرت
تركيا التدخل لحماية حقوق القبارصة الأتراك. المقترح التركي كان يقضي بأنّ يتم استغلال هذه الثروة المكتشفة لحل الأزمة القبرصية وتوحيد الجزيرة وجعل جميع السكّان ينعمون بهذه الثروة، لكن عندما رفضت قبرص اليونانية ذلك، اقترح الجانب التركي أن يتم الامتناع عن تلزيم الشركات الأجنبية لعمليات البحث والتنقيب. رد فعل قبرص اليونانية كان سلبياً، إذ قررت المضي قدماً في تلزيم المزيد من الشركات الأجنبية لعمليات البحث والتنقيب والاستخراج. ولتعزيز موقفها، شرعت بدعم من اليونان بالانخراط في شبه تحالف في شرق المتوسط مع إسرائيل ومصر أيضاً، وقد أنشأ هؤلاء ما يعرف باسم منتدى غاز شرق المتوسط.
المصالح المشتركة لهذا الرباعي المكون من قبرص اليونانية، واليونان، وإسرائيل، ومصر، آخذة في الازدياد ليس لناحية الاستفادة المشتركة من الثروات في شرق المتوسط والاستثمار المشترك في نقل الغاز إلى أوروبا فقط، بل لناحية محاولة عزل تركيا أولاً، وثنيها عن محاولة الدفاع عن حقوقها وحقوق القبارصة الأتراك من خلال ردعها. رد الفعل التركي تمثّل في اتخاذ قرارين، الأوّل يقضي بإرسال سفن التنقيب الخاصة -التي كانت تركيا قد اشترتها مؤخراً- إلى المنطقة لإجراء عمليات مسح وتنقيب بما في ذلك المناطق التابعة لقبرص التركية، ودعم هذا التحرك بنشر المزيد من التعزيزات العسكرية البحرية في شرق المتوسط حيث تمتلك أنقرة أكبر أسطول بحري في المنطقة.
أمام هذا الواقع الذي يخلط الاقتصادي بالعسكري، تدخّلت الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي لصالح قبرص اليونانية والتجمّع الإقليمي الذي يدعمها. أقرّ الكونجرس الشهر الماضي ما يعرف باسم "قانون شراكة الطاقة والأمن لشرق المتوسط لعام 2019"، الذي يتبنى موقفاً معادياً لتركيا من خلال دخل دعم خصومها شرق المتوسط. في المقابل، ردّت تركيا كذلك من خلال إصدار بيان مشترك لجميع الأحزاب التركية الممثلّة بالبرلمان (سلطة ومعارضة)، لتقول فيه إنها مستعدة للدفاع عن حقوق الأمّة التركية في هذه المسألة وكذلك حقوق القبارصة الأتراك مهما تطلّب الأمر.
قبل أيام فقط، دخل
الاتحاد الأوروبي على خط الأزمة ليدعم بدوره المعسكر المعادي لتركيا. الاتحاد هدّد بفرض عقوبات على تركيا إذا لم تتراجع عن موقفها التنقيب عن الغاز في حدود قبرص حيث يعتبر ذلك أمراً مخالفاً للقانون. وبالفعل، أعلن الاتحاد الأوروبي عن فرض عقوبات مبدئية شملت إيقاف القروض لأنقرة، لكن الأخيرة قالت إنّها لن تتراجع أبدا عن موقفها. وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ هناك مسارين في طور التشكّل، الأوّل هو مسار عزل تركيا حيث يُظهر استطلاع المواقف دعماً غربياً لتجمّع دول
منتدى غاز شرق البحر المتوسط، والثاني هو تزايد احتمالات الصدام العسكرية نتيجة لهذا الدعم الذي يستوجب ردّ فعل تركي للدفاع عن مصالحها. الأكيد أنّ اللعبة الكبرى شرق حوض البحر الأبيض المتوسط قد بدأت، وهي ستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات.