في الجزء الثاني من
سلسلة كيف تتصدى الأمة للهجمة عليها، نستكمل الحديث عن الاستراتيجيات العليا التي ينبغي على الأمة اتباعها لمواجهة الهجمة الشرسة عليها.
ثالثا: عصر الحضارة الغربية:
تعلمنا من سنّة التاريخ أن هناك دورة حياة للحضارات والأمم، بين ميلاد وضعف، ثم نمو وتقدم وازدهار، ثم ثبات لفترة ما، يعقبه تراجع وتأخر، ينتهي بالاندثار. ولا يكون الاندثار إلا بوجود حضارة أخرى قد تقدمت وازدهرت على حساب الحضارة المندثرة، حتى يدور الزمان وتبدأ دورة حياة جديدة لهذه الحضارة أو تلك.
وهذه السنة الكونية الربانية تنطبق على جميع الحضارات، مشرقها ومغربها، مسلمها ومسيحها، وثنية أم ملحدة.. وبناء على هذه التوطئة، علينا أن نفهم ونستوعب أننا نعيش في عصر الحضارة الغربية، وأن سيادة الحضارة الغربية مستمر معنا لعدة عقود، طالت أم قصرت. والإقرار بهذه الحقيقة مهم للغاية في فهم
الصراع وطبيعة المواجهة، كما سنوضح لاحقا.
والإقرار بهذه الحقيقة لا يعني بالضرورة الرضا بها والاستسلام لها، فالأمران مختلفان تماما لأصحاب العقول والأفهام.
وعليه، واستنادا إلى الحقيقة السابقة، أو الفرضية لمن شاء، فأنت مضطر لأن تخوض المعركة داخل ملعب الحضارة الغربية، ووفق قوانينها. ورغم أنه من المنطقي لن يصل بك هذا ظاهريا إلى النتيجة المرجوة؛ لأنهم لن يسمحوا لك بذلك، إلا أنّك لا تملك خيارا آخر؛ لافتقادك على مستوى الأمة لمظاهر السيادة التي تؤهلك لأن يكون لك ملعبك الخاص، وقوانينك الخاصة في إدارة الصراع.
فأدوات السيادة جميعها موجودة بدرجات مختلفة لدى الأمة، لكنها في الحقيقة لا تملكها، ولا تسيطر عليها، عدا القلاع الباقية بدرجات متفاوتة، بسبب النظم الوظيفية التي تحكمنا، والتابعة للغرب.
وبالتالي، فإن أي حركة أو كيان يستهدف التصدي للهجمة على الأمة لا بد أن تكون له نقطة ارتكاز مع أحد القلاع الباقية؛ حتى تستطيع أن تحتمي بمظاهر السيادة لديها في عملك وحركتك، لكنك في نفس الوقت لا تستهدف صراعا وجوديّا، حتى لو كنت مؤمنا بأنه صراع وجودي؛ لأنك باختصار تعيش مرحلة الضعف، وفي مراحل الضعف يعتبر التعايش والبقاء والمناورة وكسب النقاط المرحلية وإعادة بناء الذات والقوى؛ هو الهدف الاستراتيجي للمرحلة، خصوصا وأن الصراع بين الحضارات في هذا الزمن يختلف جذريّا عن العصور السابقة. فالصراع الحضاري كان غالبا (إذا نحَّينا الجانب الديني والأخلاقي) يُحسم بالكم وليس بالكيف في المقام الأول، فعناصر القوة لدى الحضارات المتصارعة كانت واحدة، والخلاف في الوفرة والكم.
فسلاح الفرسان والمشاة أو السيف والرمح ونحو ذلك كان لدى الطرفين، وتحسم النتائج بالوفرة العددية على حساب القِلة.
على عكس الصراع الحضاري الحالي، فالفارق لصالح الغرب ليس في الوفرة أو الكم فحسب، ولكن في الكيف كذلك، وبفارق شاسع بين الحضارتين.
فالفارق العلمي والتكنولوجي هائل، واعتمادنا شبه كامل على الغرب في كل شيء للأسف، في مأكلنا ومشربنا ودوائنا وتسليحنا وجُل مناحي الحياة. والأمر كما قال الشيخ الغزالي رحمه الله (بتصرف) وهو يأسى على تخلفنا الحضاري: لو قيل لكل شيء في بلاد الإسلام عُد من حيث أتيت، لخشيت أن يمشي الناس حفاة عراة.
فهذا المقال مثلا أكتبه بجهاز مصنوع غربيّا، وسأرسله عبر بريد الكتروني يملكونه، كجيميل وغيره، وسوف ينشر على شبكة الإنترنت في مواقع هم من يملكون أسماءها، ومواقع استضافتها لديهم، ولو شاءوا في لحظة واحدة لأوقفوا الجهاز الذي أكتب عليه، وأغلقوا الإنترنت، واستولوا على البريد الإلكتروني، والموقع الذي سينشر عليه المقال!!
إن المال الذي بين أيدينا هم من يطبعونه ويعطونه القيمة، ولو قرروا أن يجعلوه ورقا للنظافة لفعلوها بين عشية وضحاها!!
لذلك كثيرا ما أندهش حين أجد بعض الكيانات التي تمارس العمل السياسي، أو تتصدَّر للرأي العام، تنشر خطابات وبيانات تحوي مصطلحات صدامية وتعبوية، وهي لا تملك من أمرها شيئا، بل تعتمد اعتمادا كلّيّا على أدوات الخصم في عملها، ولو شاء بضغطة زر لأعادها إلى عصر الإبل والدواب!! فتصبح أقرب للطفل الصغير الذي يقف بجوار رجل طويل القامة مفتول العضلات، والطفل يصرخ فيه متوعدا، بينما ينظر إليه الرجل في سخرية، وهو بالكاد يصل إلى ركبتيه!!
إن الإقرار بهيمنة الحضارة الغربية هو اعتراف بالواقع، وليس قبولا به، ويعني التعامل وفق جملة أهداف واقعية وقابلة للتحقيق كما ذكرت آنفا، وتجنيب النفس التدمير والإفناء في صراعات لا تملك أيّا من أدواتها، ولا حتى تسعى إلى ذلك، بينما الطرف الآخر يملك كل الأدوات ويطورها وينميها، بل يبذل كل جهد لمنعك من الحصول عليها.
هذا الفهم لطبيعة السيادة الغربية سيجعلك أكثر حكمة في التعاطي مع المرحلة التي تمر بها الأمة، وكيف تتحرك داخل حدود ملعبها، ووفق قوانينها؛ لتبني قواك الذاتية، وتصنع وتنتج عناصر السيادة الخاصة بك، لا أن تحوزها فحسب.
وهذا الإقرار لا يعني كذلك الاستسلام والانبطاح والهزيمة النفسية أمامهم. وأقرب مثال عملي للطريقة المنشودة هي ما تحاول فعله القلاع الباقية التي تحدثت عنها، فهي في صراع مستمر مع الخصم، لكن دون الدخول في مواجهات مهلكة. كما أنها (القلاع) تناور وتتقدم وتتراجع وتلتف على حسب هامش الحركة أمامها، والنظرة بعيدة المدى في مآلات الأمور. وبطبيعة الحال، وسط خضم هذه المعارك اليومية تحدث الأخطاء، و تتراكم الخبرات، وتنضج التجارب.
رابعا: المصالح هي اللغة التي يفهمها الغرب:
لقد بُنيت الحضارة الغربية على المادة أو الرأسمالية كنظام حياة فلسفي واقتصادي واجتماعي في ذات الوقت، وهو في جوهره عبودية للمال واللذة. واستيعاب هذه النقطة جيدا وحسن استثمارها كفيل بفتح الأبواب المغلقة، والفوز من موقع غير متكافئ معهم، فكلما استطعت إدارة الصراع بمنطق المصالح لا الأيديولوجيا، كلما حققت قفزات في المعركة لصالحك، والشواهد على ذلك كثيرة ومتنوعة.
وهنا قد يحتج محتج بأن الصراع أيديولوجي كذلك، وسيدلل على ذلك أيضا.. وليس لديَّ خلاف مبدئي على هذه النقطة، لكني أتحدث هنا عن إدارتك للصراع وليس عن منطلقاتك حوله. كما لا ننسى أننا نتحرك من موقع ضعف في مظاهر السيادة لا القوة، وبالتالي فأنت تتحرك وفق المتاح والأفضل لك، وليس ما تتمناه وترجوه.
كما أن التجربة العملية أثبتت أن كثيرا من دعاوى الأيديولوجيا المرفوعة غربيّا سرعان ما تسقط وتُنسى أمام بريق المال أو المصلحة المرجوة، وعلاقة الاتحاد الأوروبي بتركيا في كثير من محطاتها دليل واضح على ما أقول.