في ظل مشهد عربي قاتم بالحروب والانقلابات والمؤامرات والفوضى المتمددة في كل مكان يَعود السؤال الأصعب عربيا: هل انهزمت فعلا ثورات الربيع وانتصرت الثورة المضادة؟ هل طُويت صفحة الثورات إلى غير رجعة وعادت المنطقة إلى المربع الأول الذي كان قبل الانفجار التونسي؟ إن صحّت الهزيمة فما الذي تمثله في المسار العربي وما هي تداعياتها المستقبلية على شعوب المنطقة ومستقبل أبنائها؟ لكن إن لم تصُحّ هذه الرواية فما الذي يحدث اليوم في المنطقة ولِمَ ينتشر الموت واليأس في كل مكان؟
كثيرة جدا هي الصيغ التي تُسائل الراهن العربي عن الوجهة التي يسير إليها بل إنها تبحث أيضا عن فهم ما حدث خلال السنوات العشر الماضية من حوادث تبدو من أخطر ما عرفته الأمة منذ منتصف القرن الماضي. ليس مدار البحث هنا تقديم إجابة قاطعة عمّا يجري عربيا وإقليميا وعربيا بل مدار الكلام هنا عن إثارة أكبر قدر ممكن من القضايا التي يعمل المشهد الإعلامي العربي على طمسها وإخفائها. إن هذه القضايا لا تتجلى في صورة مسائل أو ملفات مستقلة بقدر ما هي روابط وفواصل تكشف شبكة من العلاقات بين الحدث ومسبباته وبين الظاهرة وما تأسست عليه.
الثورات لا تزال في بدايتها
قد يبدو هذا القول مبالغا فيه بشكل ما، لكنّ تتبع تاريخ الثورات والتغيرات الاجتماعية الكبرى يؤكد أن مدّة عقد من الزمان هي مدة لا تُحسب ولا يؤخذ بها في عمر الثورات. يمكن القول كذلك إنّ الثورات تنقسم إلى ثلاثة مراحل أساسية لا تخرج عن التقسيم الخلدوني لعمر الدول والحضارات، وهي مرحلة الانطلاق أو الانفجار الكبير ثم مرحلة المسار التي تعتبر المدة الأطول في تاريخ الثورات لأنها ستصوغ عبرها مشروعها السياسي والحضاري العام. تأتي إثر ذلك المرحلة الثالثة وهي مرحلة الانحدار أو النهاية التي لا تعني بالضرورة انكسار الثورة بل تعني أنها استهلكت مخزونها التاريخي واستنفذت طاقتها الحضارية وأنها ستتحول إلى مشروع مرحلة تاريخية جديدة أو ثورة جديدة.
تأسيسا على ما تقدّم فإن ما عرفته المنطقة العربية من هزات اجتماعية عنيفة خلال السنوات العشر الفارطة يمثل شكلا ثوريا قائما لا خلاف فيه. واجه هذا الإقرار عددا كبيرا من الاعتراضات التي رأت في الأحداث العربية الأخيرة شكلا أقل حدّة وأضعف أداء من الفعل الثوري بل ذهب آخرون إلى اعتبارها شكلا من أشكال المؤامرة مشككين في الفاعل الاجتماعي أساسا. يمثل الاعتراضان السابقان أهم المواقف من ثورات الربيع العربي لكنهما يكشفان أنهما لا يصدران عن خلفية تحليلية استدلالية أو استقرائية مستقلة بل هما نابعان من سرديات الثورة المضادة نفسها أو على الأقل صادران عن أدبيات النظام القديم الذي قامت الثورة على أطلاله.
تغيرات النظام الرسمي العربي
من جهة أولى يمثّل التفسير الذي يرى في الرجّات الكبيرة التي ضربت المنطقة انتفاضةً جماهيرية أو هزّة شعبية عارضة موقفا موضوعيا قابلا للقراءة لكن يمكن من جهة ثانية تبيّن ضعفه التحليلي عبر قراءة عمق التحوّل الذي ضرب المنطقة. لقد عرفت البلاد العربية عددا هاما من الانتفاضات الشعبية الكبرى منذ منتصف القرن الماضي وتحديدا منذ نشأة ما يسمى بالدولة الوطنية وخاصة خلال الثمانينيات في مصر وسوريا وتونس والجزائر وغيرها من الدول العربية. لكنها انتفاضات وهزات لم تتمكن رغم أهميتها وحجمها من تغيير النظام السياسي القائم بما هو نظام موحّد البنية والإسناد والفعل وردّ الفعل.
لقد حافظ النظام الرسمي العربي على نفسه موحدّا في ما يتعلق بمنظومته القمعية وفعله الاستبدادي منذ الخمسينيات. لم تتحرك بنية السلطة العربية إلا داخليا عن طريق الانقلابات التي يجدد بها الاستبداد جلده مثلما حدث عبر كل أنواع الانقلابات والحركات التصحيحيّة وحتي الاغتيالات السياسية. فاغتيال السادات في مصر وانقلاب حافظ الأسد على رفاقه في سوريا وانقلاب بن علي الطبي في تونس على بورقيبة ومجموع انقلابات موريتانيا والعراق والسودان تدخل كلها وغيرها في هذا الإطار.
لا يمكن الجزم إذن بانتهاء المدّ الثوري ما دامت كل شروط الانفجار قائمة وهي نفس الشروط التي أدت إلى اندلاع الثورات منذ ربيع الثورة التونسية.
زيارة المسجد الأقصى في ظلّ الاحتلال.. نقطة نظام
الهارب من رمضاء "النهضة" يقع في نار المنظومة الفاسدة