دخلت
تونس هذا الأسبوع في خضم الحملة الانتخابية الرئاسية المبكرة؛ عبر برامج حوارية يتم فيها استضافة أهم المرشحين. هناك استطلاعات رأي تمت وهي غير منشورة الآن؛ بحكم القانون الذي يفرض ذلك في فترة محددة قبل
الانتخابات، وهي تحيل عموما على ترتيب يعطي الأسبقية النسبية حتى الآن لمرشحين من خارج مجمل المنظومة الحزبية القائمة، ويتم وصفهم عادة بـ"الشعبويين".
بمعزل عن ذلك، سأحاول في هذه الورقة طرح الإحداثيات والصفات التي تناسب وظيفة رئاسة الجمهورية في المرحلة القادمة لتونس.
بداية، علينا أن نحدد التحدي الأساسي الذي سيواجه تونس؛ حتى يمكن لنا أن نحدد طريق الحل المناسب. من الواضح أن أهم ظاهرة بصدد التشكل منذ حوالي العام هي صعود واضح لخيارات "جديدة" تتموقع خارج منظومة الأحزاب والمرشحين التقليديين. إذ بدأ صعود كل من صاحب أحد أهم القنوات الإعلامية انتشارا (قناة "نسمة") نبيل القروي، وأستاذ القانون الدستوري، قليل الظهور في الإعلام، قيس سعيد، بشكل لافت منذ نهاية سنة 2018، حسب استطلاعات جدية منشورة وخاصة غير منشورة. إضافة إلى ذلك، كان هناك تزايد في نوايا التصويت لمصلحة أحد أهم المعبرين عن النوستاليجا لعهد الاستبداد، المحامية عبير موسى، وما تمثله من استعداء لمنظومة التأسيس للديمقراطية. في الحالتين، هناك حالة احتقان من الحصيلة بعد الثورة، وهنا نجد عموما ردتي فعل من خارج منظومة الأحزاب المعروفة:
- رد الفعل الأول موصوف بـ"الشعبوي"ـ ويستثمر في سلبية الحصيلة إما لطرح بديل تعويض الدولة بالعمل الخيري، واستعمال وسيلة إعلامية واسعة المشاهدة للترويج لبضاعة خارج إطار
السياسة المعتادة بوجوه تتبع أساسا المنظومة القديمة (نبيل القروي)، أو بديل يركز على الاعتراف بفضل الثورة لكنه ينتقد بشدة المنظومة الانتخابية بصفتها لم تحل مشاكل الناس، ويقترح منظومة جديدة، ويتجاهل تماما الانتخابات التشريعية ومن ثم الدور الرئيسي للبرلمان في النظام السياسي القائم (قيس سعيد).
- رد الفعل الثاني بديل يستعدي الدستور وأي مكاسب تمت بعد الثورة، خاصة منها على مستوى الحريات، ويستثمر تحديدا في الاحتقان الأعمى دون أفق، رغم أنه يستعمل هذه المكاسب والتموقع في الإطار الديمقراطي والدستوري الذي يقوم بذمه.
الحقيقة، ليست هذه القوى تحديدا هي التي تمثل خطرا رئيسيا على الدولة والجمهورية، فما يشكل خطرا جديا هي الأسباب التي أدت إلى وجودهم، تحديدا عجز مرحلة التأسيس الديمقراطي في تأسيس دولة ديمقراطية قادرة على أن تكون قوية، ليس بالعنف، بل بتفعيل القانون وسلطة المؤسسات وغير مرتعشة أمام سلطة اللوبيات والمافيات، وعادلة تحترم حقوق الناس، وتفرض حدا أدنى من الفرص المتساوية بين مواطنيها وفقا لمبادئ الدستور في العدالة الاجتماعية والتمييز الإيجابي.
هذا الفشل هو الذي خلق مجالا لموجة خارج المنظومة الحزبية المعتادة، والخطر ليس تهديد سلطة الأحزاب، إذ الأحزاب أدوات في الديمقراطية وليست غاية في ذاتها، بل ترسخ تهرئة الديمقراطية ذاتها. بمعنى آخر، فشل منظومة الحكم منذ الثورة في تفعيل دور الدولة في تحقيق مبادئ الدستور في الكرامة والتنمية العادلة وحماية مواطنيهاـ وتفعيل القوانين والمؤسسات، هو الخطر الرئيسي أمام الديمقراطية. في نهاية الأمر، القوى المهيمنة منذ 2011 إلى الآن هي التي خلقت الأرضية السياسية والاجتماعية التي سمحت بصعود بدائل مشوهة أو بدائل الردة إلى ما قبل الثورة.
لم تستطع فترة الانتقال الديمقراطي والتأسيس الراهنة أن تفرز قوى سياسية متمايزة حسب الرؤى والبرامج، بل لدينا استغراق في استقطاب هوياتي (إسلامي/ حداثي) من جهة، أو استقطاب التموقع في السلطة من أجل التموقع في السلطة (حكومات "توافق" و"وحدة وطنية" لتوزيع السلطة بدون عمق برامجي). في الحالتين، لم تستطع القوى التي فازت في 2014، سواء الإسلامية أو التي جددت منظومة ما قبل الثورة، أن تقدم حلولا جديدة اقتصادية واجتماعية، وانتهت عموما إلى ديمومة الخيارات التنموية السابقة للثورة، وفي أحسن الحالات تزويقها.
كان الخيار الاقتصادي والاجتماعي عموما قابلا، بل معززا، لاستمرار سيطرة العائلات واللوبيات والعجز عن تقديم تصور في خصوص تدبير وتسيير ملف الثروات الباطنية، أيضا غياب مقاربة واضحة في العلاقات التجارية والاقتصادية الخارجية، خاصة مع الاتحاد الأوروبي، ومن ثم عدم تفعيل مبادئ الدستور في المحور الاقتصادي والاجتماعي.
ونظرا لخصوصية النظام السياسي "البرلماني المعدل" للدستور التونسي، فإن أي رئيس لتونس لا يمكن له مواجهة هذا الإشكال وطرح طريق للحل دون أن يكون معنيا بالرئاسية والتشريعية في ذات الوقت.
بمعنى آخر، الرئيس المناسب لتونس هو الذي يحمل مشروعا في الانتخابات الرئاسية يكون مردوفا بعرض حزبي في الانتخابات التشريعة يعرض حلول متناسقة، وهنا تعقيد الوضع في الخصوصية التونسية.
أما في إطار صلاحيات الرئيس، فقد حددها الدستور كما يلي "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدتها يضمن استقلالها واستمراريتها ويسهر على احترام الدستور"، أيضا "تمثيل الدولة وضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة".
وفي هذا الإطار، يحتاج الرئيس المناسب أن يكون ذا تجربة نضالية، تعكس تمسكه بالدستور ومبادئه مهما كانت الظروف. إذ لا نزال في فترة انتقال ديمقراطي من الزاوية التاريخية، وفي رأيي يجب أن يتبع سياسة "أمن قومي" تركز مثلا على تعزيز ومواصلة إعادة تأهيل القوات الحاملة للسلاح في إطار مهمة مكافحة الإرهاب، والتعاون الدولي من أجل إعادة عائلات المتورطين في الإرهاب، وبرنامج لـ"نزع الراديكالية" وقائي من الإرهاب، مع تبنّي سياسة خارجية تركز على الحفاظ على روح الدستور خاصة الدعم الثابت لنضال الشعب الفلسطيني، ودبلوماسية نشيطة في ليبيا تتجاوز التركيز على الأمني وتنخرط ميدانيا وعمليا في أجواء الحل السلمي للصراع المسلح، وترتيب الوضع خاصة فيما يتعلق بالمنطقة الحدودية المشتركة، ومواصلة سياسة جوار نشيطة مع الجار الجزائري، مع توجه اقتصادي نشيطة نحو أفريقيا جنوب الصحراء، والتركيز على الدبلوماسية الاقتصادية وإعادة هيكلة السياسة الخارجية على ذلك الأساس. وعليه أن يوظف نفسه لسياسة خارجية تخدم "الأمن القومي" في معناه الشامل، بما في ذلك جلب التمويلات اللازمة للأمن الطاقي والمائي والبيئي، لتعزيز جهود الدولة الاستراتيجية لحماية أساسيات حياة التونسيين.