عندما اندلعت الحرب الأهلية، كانت صلاحيات إنشاء المصارف بيد الولايات وحدها. ولم تبدأ البنوك بالعمل على المستوى الوطني برقابة فيدرالية إلا بعد صدور قانون العملة الوطنية في عام 1863 وقانون المصارف الوطنية في عام 1864، والذي سُن في ذروة الحرب الأهلية، وكان في ذلك الوقت قانوناً في الشمال فقط. سن الاتحاد تلك القوانين حتى يتمكن من إيجاد عملة وطنية تمكنه من تمويل الحرب.
وتضمن التشريع إيجاد مكتب تنظيم العملة، الذي يعتبر أول منظم مصرفي فيدرالي في البلاد. وما بعد الحرب، ظل مسموحاً للولايات إنشاء بنوك خاصة بها. ظلت هذه البنية التحتية المعقدة حتى يومنا هذا، وهي تعرف بالنظام البنكي المزدوج. من بين جميع البلدان في العالم، فقط الولايات المتحدة لديها مثل هذا النظام التفتيتي والمتداخل ومنعدم الكفاءة – إذ إنه واحد من مخلفات الصراع بين السلطة الفدرالية وسلطة الولايات المحلية بشأن صيانة الاقتصاد القائم على الرق في الجنوب.
يتم تمويل منظمي البنوك في الولايات ومكتب تنظيم العملة من الرسوم التي تجبى من البنوك الخاضعة للتنظيم – سواء كانت فدرالية أو ولائية، بناء على تأسيسها. كما أن بإمكان البنوك تغيير الجهة المنظمة لها إذا ما غدت غير راضية عنها. ولذلك فإن قوانين حماية المستهلك وتخفيض أسعار الفائدة على القروض وتنظيم شؤون المصارف كثيراً ما تفقد فعاليتها، بل وقد ينجم عن إزالة القيود التنظيمية اندلاع أزمة.
في منتصف العقد الأول من الألفية الحالية، وعندما بدأ المقرضون بالرهن يظهرون في بعض الأحياء حيث يقيم ذوو الدخل المحدود وكثيرون منهم يغلب عليهم أنهم من السود أو من أصول لاتينية، انتبه لهذه الظاهرة كثير من منظمي المعاملات المصرفية على المستوى الولائي. ولقد حاول منظمو التأمين الولائي في ميتشيغان تطبيق قوانين حماية المستهلك لديهم على مؤسسة واتشوفيا للرهن العقاري، والتي هي إحدى توابع مصرف واتشوفويا. ورداً على ذلك، تدخل مباشرة المنظم الوطني في واتشوفيا – أي مكتب تنظيم العملة – زاعماً بأن المصارف التي تأسست على المستوى الوطني ليست مجبرة على الانصياع إلى القانون الولائي. ما لبثت المحكمة العليا أن وافقت مكتب تنظيم العملة فيما ذهب إليه، ومضت واتشوفيا قدماً في تعاملات المقرضين بالرهن رغم ما يحفها من مخاطر.
في نهاية المطاف فجرت مثل هذه القروض النظام المصرفي واستثمارات كثير من الأمريكيين – وخاصة الأكثر عرضة منهم. فقد خسرت مجتمعات السود ثلاثة وخمسين بالمائة من ثروتها بسبب الأزمة، وهي خسارة قال عنها براد ميلر، عضو الكونغرس السابق إنها "أوشكت أن تكون حدثاً مهلكاً تماماً."
كان العمال المسترقون يقطعون الشجر باستخدام الفؤوس، ويحرقون النباتات الحرجية، ويمهدون التربة للزراعة. يذكر جون باركر، أحد العمال المسترقين، إن "غابات بأكملها كانت تقتلع الأشجار فيها من جذورها." كانت جمم من النبات الوارف تستبدل بمحصول واحد. ولذلك يمكن للمرء أن يجد في زراعة القطن أصل فكرة فرض إرادة المال الأمريكي على الأرض وتلويث البيئة في سبيل جني الأرباح حيث تصبح الأطعمة أكبر وأكثر شيوعاً. إلا أن انعدام التنوع البيولوجي أنهك التربة وكما قال المؤرخ والتر جونسون "وحول واحدة من أغنى المناطق الزراعية في الأرض إلى الاعتماد على تجارة الأطعمة."
ومع انتشار معسكرات العمالة المسترقة في مختلف أرجاء الجنوب ارتفعت معدلات الإنتاج، وبحلول عام 1831 كانت البلد تنتج ما يقرب من نصف إنتاج القطن في العالم وكان الوزن الإجمالي للمحصول في ذلك العام 350 مليون رطلاً. وبعد أربعة أعوام فقط وصل المحصول إلى 500 مليون رطل. زاد ثراء البيض الجنوبيين وكذلك حال نظرائهم في الشمال، الذين أقاموا مصانع النسيج ليشكلوا، كما قال سيناتور ماساشوسيتس تشارلز سومر "تحالفاً غير مقدس بين لوردات السوط ولوردات المنول." في تلك الأثناء، عجلت زراعة القطن على نطاق واسع باختراع المصنع، وهو المؤسسة التي حركت الثورة الصناعية وغيرت مسار التاريخ. في عام 1810، كان يوجد في أمريكا ما يقرب من 87 ألف مغزل قطن. وصل عددها بعد خمسين عاماً إلى خمسة ملايين. وفيما يتعلق بالرق، كما كتب أحد المدافعين عنه في "تقرير دي باو"، وهي مجلة زراعية كانت تقرأ على نطاق واسع، فقد كان الرق هو "الأم الحاضنة للثراء في الشمال." كان زارعو القطن وغازلوه ومستهلكوه يشاركون معاً في تشكيل اقتصاد جديد، اقتصاد عالمي في مداه، اقتصاد تطلب نقل رأس المال والعمالة والمنتجات عبر مسافات طويلة. بمعنى آخر، كانوا يشكلون اقتصاداً رأسمالياً، وكما كتب بيكيرت "كان الرق هو القلب النابض لهذا النظام الجديد."
إقرأ أيضا: "عربي21" تنشر سلسلة مقالات تفضح وحشية رأسمالية أمريكا
لعلك تقرأ هذا المقال وأنت في العمل، ولعلك تعمل لدى مؤسسة متعددة الجنسيات تشتغل كما لو كانت محركاً يخرخر بهدوء، أنت فيها مسؤول تجاه شخص ما وثمة من هو مسؤول تجاهك، وكل شيء متتبع، يتم تسجيله وتحليله عبر نظام عمودي لكتابة التقارير، لا يترك شاردة ولا واردة تتعلق بالمنتج إلا دونها. وتبدو البيانات متسلطة على كل واحدة من العمليات والإجراءات، بما يوحي بأنها مقاربة عصرية متفوقة في الإدارة، مع أن كل تلك الآليات والإجراءات التي تبدو لنا اعتيادية في يومنا هذا كانت قد طورت إلى حد بعيد من قبل مزارع القطن ولصالحها.
عندما يقدم محاسب على تخفيض قيمة الموجودات بهدف تقليص مبالغ الضرائب المستحقة أو عندما يقضي مدير وسيط عصر يومه في تعبئة صفوف وأعمدة جدول بيانات إكسيل، فما يفعلونه هو أنهم يكررون إجراء حسابات تجارية تعود جذورها إلى معسكرات العمالة المسترقة. إلا أن الرق، بالرغم من ذلك، لا يلعب أي دور في تواريخ الإدارة، كما تشير المؤرخة كايتلين روزنثال في كتابها "محاسبة لأجل الرق". ومنذ صدور كتاب ألفريد تشاندلر في عام 1977 بعنوان "اليد المرئية"، لم يفتأ المؤرخون ينزعون نحو ربط تطور الممارسات التجارية الحديثة بقطاع السكة الحديد كما كان سائداً في القرن التاسع عشر، معتبرين الرق في مزارع القطن سابقاً على الرأسمالية، وحتى بدائياً. فهي حكاية للجذور ألطف، إنها الحكاية التي تحمي فكرة أن صعود أمريكا الاقتصادي إنما حدث ليس بسبب ملايين السود الذين كانوا يقومون بالأشغال الشاقة في مزارع القطن وإنما رغماً عنهم. وذلك مع أن آليات الإدارة التي استخدمتها الشركات في القرن التاسع عشر هي نفسها تلك التي كان يطبقها في القرن السابق مالكو مزارع القطن.
لقد سعى مزارعو القطن إلى توسيع عملياتهم استغلالاً للاقتصاديات النامية والقائمة على زراعة القطن، فكانوا يشترون المزيد من العمال المسترقين، ويستثمرون في آليات رفع وضغط أضخم وكانوا يجرون التجارب على أنواع مختلفة من البذور. وفي سبيل إنجاز ذلك، عمدوا إلى تطوير منظومات بالغة التعقيد داخل مواقع العمل، تشتمل على مكتب مركزي يتكون من الملاك والمحامين المكلفين باعتماد رؤوس الأموال وإعداد الاستراتيجيات طويلة المدى، ووحدات متخصصة تتحمل كل منها جزءاً من العمليات التشغيلية المختلفة. تصف روزنثال في كتاباتها إحدى المزارع حيث كان المالك يشرف على محام كبير وهذا بدوره يشرف على محام آخر، وهذا الأخير كان يشرف على مراقب، والمراقب كان يشرف على ثلاثة أشخاص مهمتهم مسك الدفاتر، وهؤلاء كانوا يشرفون على ستة عشر مسترقاً من أصحاب المهارات والاختصاص، وهؤلاء كانوا يشرفون على مئات العمال المسترقين. كان كل واحد من هؤلاء الأشخاص مسؤولاً تجاه شخص آخر، وكانت المزارع تضخ ليس فقط بالات القطن بل وأيضاً كميات كبيرة من البيانات تتعلق بكيفية إنتاج كل واحدة من هذه البالات. كان مثل هذا النمط التنظيمي متقدماً جداً بالنسبة لزمانه، فقد كان على مستوى من الترتيب الإداري الهرمي المعقد الذي لا يضاهيه سوى ما عليه الكيانات الحكومية الضخمة مثل سلاح البحرية الملكي التابع لبريطانيا.
إقرأ أيضا: إرث الرق في أمريكا
ومثل جبابرة الصناعة في يومنا هذا، كان الزراعون يدركون أن أرباحهم تتنامى كلما انتزعوا من كل واحد من العمال حده الأعلى من الجهد، ولذلك كانوا يركزون اهتمامهم على المدخلات والمخرجات من خلال تطوير أنظمة دقيقة لحفظ السجلات. وبناء عليه، كانت دقة ومهارة من يمسكون الدفاتر ومن تناط بهم مهمة المراقبة لا تقل أهمية بالنسبة للإنتاجية في معسكرات العمالة المسترقة عن الأيدي التي تقطف محصول القطن في الحقول. وفي المحصلة طور متعهدو المزارع جداول، مثل "سجل المزرعة ودفتر الحسابات" المنسوب لتوماس أفليك، والذي صدرت منه ثمان طبعات ظلت رائجة حتى اندلاع الحرب الأهلية. كان كتاب أفليك عبارة عن دليل محاسبة يفي بكل الأغراض، يشتمل على صفوف وأعمدة لتتبع مستويات الإنتاجية. قالت لي روزنثال عنه: "كان هذا الكتاب في واقع الأمر أحدث ما تم التوصل إليه من تقنيات معلوماتية كانت متاحة لدى المشاريع التجارية خلال تلك الفترة. بل لم أجد شيئاً يشبهه أو يبلغ ما بلغه من تعقيد ولو من بعيد لتدوين الأعمال التي تقوم بها العمالة الحرة." كان مالكو العبيد يستخدمون الكتاب لحساب موازنات نهاية العام، وحساب النفقات والمداخيل وتدوين الملاحظات الخاصة بأسباب جنيهم الأرباح الكبيرة أو تكبدهم الخسائر. وكانوا يقيسون التكاليف الرأسمالية لأراضيهم ومعداتهم والعمالة المسترقة لديهم من خلال تطبيق توصيات أفليك الخاصة بمعدلات الفائدة. ولعل أكثر ما في الأمر إثارة أنهم طوروا أساليب لحساب الإهلاك (تآكل قيمة الموجودات)، وهو ما يعتبر اختراقاً في الأساليب الإدارية الحديثة، وذلك من خلال تقدير القيمة السوقية للعمال المسترقين على مدى أعمارهم، حيث كانت قيمة هؤلاء تصل في العادة ذروتها ما بين سن عشرين وأربعين عاماً. إلا أن هذه القيم كانت تعدل إما رفعاً أو خفضاً بحسب جنس المسترق وقوته ومزاجه: أي أن البشر كانوا يختزلون في نقاط بيانية.
وكان هذا المستوى من تحليل البيانات يسمح للزراع بترقب وتدارك حوادث التمرد، حيث كانت الأدوات تحصى وتدون بشكل دوري لضمان عدم فقدان أعداد كبيرة من الفؤوس أو المعاول أو ما يمكن أن يتحول إلى سلاح. خذ على سبيل المثال النصيحة التي وجهها مالك رقيق في فيرجينيا في عام 1847 حين قال: "إياك أن تسمح لأي عبد بقفل باب أو فتحه". وبهذه الطريقة كانت التقنيات الجديدة التي طورت في مجال مسك الحسابات بهدف زيادة العائدات تساعد أيضاً في ضمان انسياب العنف في اتجاه واحد، بما يسمح لقلة قليلة من البيض بالتحكم بمجموعة أضخم بكثير من البشر السود المسترقين. لم ينس الزراع الأمريكيون بتاتاً ما حدث في سانت دومينيك (التي تسمي الآن هاييتي) في عام 1791 عندما حمل العمال المسترقون السلاح وتمردوا. والذي حصل حينها أن كثيراً من البيض الذين كانوا يملكون العبيد وأطيح بهم في ثورة هاييتي انتقلوا إلى الولايات المتحدة وبدأوا حياتهم هناك من جديد.
كان المراقبون يدونون إنتاج كل واحد من العمال. لم يكن التدوين في الدفاتر يجري فقط بعد حلول الليل عندما كانت سلال القطن توزن، وإنما طوال النهار أثناء العمل. وكما جاء في كلمات أحد الزراع من شمال كارولاينا، كان يتوجب أن يبقى العمال المسترقون "رهن المتابعة والمراقبة من طلوع فجر النهار وحتى يحل ظلام الليل". ومما سهل على المراقبين متابعة العمال والتعرف على من يتكاسل منهم أو يتقاعس أن عملية قطف القطن باليد كانت تتم في صفوف على امتداد ما يعادل في بعض الأوقات مساحة خمسة ملاعب من ملاعب كرة القدم. وكانت الطريقة التي تنظم بها الأعمال في الأرض لها منطق، ومنطقها يهدف إلى الهيمنة. كان العمال الأسرع يوضعون على رأس الخطوط حتى يتحفز من خلفهم إلى اللحاق بهم والتقيد بسرعتهم. وعندما كان العمال المسترقون يهرمون أو يمرضون أو كانت النساء تحملن، كانوا يكلفون بأعمال أخف وطأة. بل لقد عمد أحد ملاك العبيد إلى إنشاء تصنيفات مثل "عصابة المرضعات" للأمهات اللواتي كن يرضعن أطفالهن، وكذلك "عصابة الحصبة" حيث كان يحجر على من يصاب بالفيروس ويبقى على قيد الحياة لضمان أن يقوم بدور ما في آلية الإنتاج. وكانت المجلات التجارية تحفل بالنصائح المتبادلة بين المالكين حول المشاكل التي تواجههم وأنجع السبل في الإدارة والتحكم، بما في ذلك ما يتعلق بطعام العبيد وكسوتهم وحتى نوعية اللهجة التي ينبغي على السيد استخدامها عند التحدث معهم. فعلى سبيل المثال، وجه أحد الزراع من ألاباما في عام 1846 نصيحة لزملائه من ملاك العبيد بأن يحرصوا دائماً على إصدار الأوامر "بلهجة خفيفة وأن يحاولوا ترك انطباع في عقل الزنجي بأن ما يقولونه له إنما صدر عن تفكر وتدبر." وكان الشيطان (وأرباحه) يقبع دوماً في التفاصيل.
سبق ذلك السعي المحموم للقياس والحساب العلمي في مزارع العبيد الثورة الصناعية. ولم تبدأ المصانع في الشمال في تبني مثل هذه التقنيات إلا بعد مرور عقود على إعلان تحرير العبيد. ومع زيادة الكفاءة داخل المعسكرات الكبرى للعمالة المسترقة، أصبح السود المسترقون هم أول جيل من العمالة الحديثة في أمريكا وراحت قدراتهم الإنتاجية تتزايد بسرعة فائقة. وخلال الستين عاماً التي سبقت الحرب الأهلية زادت كمية القطن التي كان العامل الواحد يقطفها بمعدل 2.3 بالمائة في السنة الواحدة. وهذا يعني أنه بحلول عام 1862، كان عامل الحقل المسترق يقطف ليس 25 بالمائة أو 50 بالمائة أكثر مما كان يقطف نظيره في عام 1801، بل 400 بالمائة.
* نقلاً عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية.
* الترجمة خاصة بــ"عربي21".