تسارعت مؤخرا وتيرة المفاوضات الماراثونية بين أمريكا وطالبان، من أجل التوصل إلى اتفاق تاريخي، بعد 18 عاما من الاجتياح الأمريكي لأفغانستان للإطاحة بنظام طالبان وتصفيتها في أعقاب اعتداءات 11 أيلول/ سبتمبر 2001.
ويبدو أن واشنطن، على خلاف طالبان، تسابق الزمن في سبيل تحقيق اتفاق سلام مع الحركة، قبل موعد الانتخابات الأفغانية المقررة في 28 أيلول/ سبتمبر 2019، وقبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، بينما لا تبدو طالبان في عجلة من أمرها في ظل زيادة نفوذها وسيطرتها على الأرض. وقد صعّدت حركة طالبان عملياتها العسكرية ووسعت من نطاق هجماتها مع تقدم المفاوضات في الجولة التاسعة، التي انعقدت في الدوحة في 6 أيلول/ سبتمبر 2019. وكانت الجولة الثامنة من المُفاوضات بين حركة طالبان والولايات المتحدة، في 12 آب/ أغسطس الماضي، قد انتهت دون صدور أيّ بيان ختامي مُشترك يؤكّد التوصّل إلى اتّفاق، واكتفى زلماي خليل زاد، المبعوث الأمريكي إلى أفغانستان، بالحديث عن التوصّل إلى مشروعِ اتّفاقٍ، وتحقيق تقدّمٍ مُشجّع.
ورغم الحديث عن تقدّم مُشجّع، فإن التسريبات حول بنود الاتفاق لا تزال محدودة، وهي تتركز على الحديث عن انسحابٍ أمريكي تدريجي على مدى 18 شهرا، يُؤدّي في النّهاية إلى عودة نحو 14 ألف جندي إلى الولايات المتحدة، تطبيقا لوعود الرئيس دونالد ترامب، بينما لم تقدم حركة طالبان تنازلات واضحة حول المطالب الأمريكية التي تتلخّص في وقف كامل لإطلاق النّار، والدخول في مُفاوضاتٍ مع حُكومة أشرف غني في كابول، وتقديم ضِمانات مُلزمة بعدم السّماح بتحويل أفغانستان إلى منصّة للتّنظيمات المُتشدّدة، مثل "القاعدة" و"تنظيم الدولة"، تستهدف الأراضي الأمريكيّة.
لم تقدم حركة طالبان تنازلات واضحة حول المطالب الأمريكية التي تتلخّص في وقف كامل لإطلاق النّار، والدخول في مُفاوضاتٍ مع حُكومة أشرف غني في كابول، وتقديم ضِمانات مُلزمة بعدم السّماح بتحويل أفغانستان إلى منصّة للتّنظيمات المُتشدّدة
في سياق المفاوضات بين أمريكا وطالبان، تبدو الحكومة الأفغانية غائبة تماما، فحركة طالبان مستعدة لوقف إطلاق نار مع القوات الأمريكية، لكنّ ليس مع الجيش الأفغاني، الأمر الذي
يضع مستقبل أفغانستان في حالة من الغموض، ويدشن لحرب أهلية واسعة.
وثمة انتقادات واسعة داخل الولايات المتحدة من انجاز اتفاق سيئ، وتحذيرات من الانسحاب الكامل، حيث قال السناتور ليندسي غراهام لمحطة "فوكس نيوز" إنه "إذا غادرنا أفغانستان دون (إبقاء) قوة لمكافحة الإرهاب ومن دون أمكانيات جمع معلومات استخباراتية، فإنّ تنظيم الدولة الإسلامية سيظهر من جديد وتنظيم القاعدة سوف يعود، سيضربون وطننا وسيلاحقوننا في أرجاء العالم".
وحذّر الجنرال ديفيد بتريوس، الذي قاد القوات الأمريكية في العراق، في مقال في صحيفة "ذا وول ستريت جورنال"، بأنّه "تحت أي ظرف لا ينبغي أن تكرر إدارة أمريكية الخطأ الذي ارتكبته الإدارة السابقة في العراق، بالموافقة على سحب كامل للقوات القتالية من أفغانستان". وكتب بترايوس في مقال مشترك مع الخبير في شؤون أفغانستان فانس سيرشوك؛ أن "عمليات مكافحة الإرهاب الفعالة في أفغانستان، وعلى نفس القدر من الأهمية في المناطق القبلية المجاورة لباكستان، ستثبت أنها شبه مستحيلة في غياب بصمة أمريكية دائمة على الأراضي الأفغانية".
يلخص عنوان المقال التحليلي الذي كتبه أنتوني لويد في صحيفة التايمز، "الأفغان يشعرون باليأس تجاه اتفاق السلام الأمريكي الذي يسلم طالبان النصر على طبق من ذهب"، جملة المخاوف من التوصل لاتفاق ناقص، إذ يقول مراسل التايمز في أفغانستان، إنه وبينما تستعد الولايات المتحدة للإعلان عن تفاصيل اتفاق مع حركة طالبان، يلاحق السكان شبح عودة الحرب الأهلية التي عاشوها في تسعينيات القرن الماضي.
فعلى الرغم من استقرار الوضع نوعا ما في البلاد إلا أن العنف يبقى جزءا من حياة الأفغان بشكل عام، ويرى لويد أنه إذا ما حصل الاتفاق على تصديق الرئيس ترامب، وهو الذي طالما أبدى رغبته في إنهاء الحرب الأمريكية الطويلة في أفغانستان، فستبدأ الولايات المتحدة بسحب 5400 جندي (أي ثلث قواتها المتواجدة هناك) خلال 135 يوما. ويشير إلى أن الظروف التي أحاطت بالمفاوضات خلقت نوعا من عدم الثقة بين جميع الأطراف، إذ تشعر الحكومة الأفغانية التي استبعدت أثناء المفاوضات؛ بأنه لا توجد ضمانات أمريكية بشأن سلامتها وعدم الانقلاب عليها بعد خروج القوات الأمريكية.
سبب تأجيل زيارة غني إلى أن مسودة التوافق، التي اطلع الرئيس الأفغاني عليها أثناء جلسته مع المندوب الأمريكي خلال زيارته إلى كابول، كانت "هشة وضعيفة ويشوبها الكثير من الغموض"
إن عدم وجود ضمانات أمريكية بسلامة الأراضي الأفغانية ظهر بوضوح من خلال غضب الحكومة الأفغانية من المفاوضات بين أمريكا وطالبان، والتي تراها كابول تهديدا لها، حيث
أجّل الرئيس الأفغاني أشرف غني زيارة كانت مقررة إلى واشنطن بخصوص المصالحة، لأسباب غير معلومة. وأرجعت مصادر في الرئاسة الأفغانية سبب تأجيل زيارة غني إلى أن مسودة التوافق، التي اطلع الرئيس الأفغاني عليها أثناء جلسته مع المندوب الأمريكي خلال زيارته إلى كابول، كانت "هشة وضعيفة ويشوبها الكثير من الغموض". وأشارت المصادر إلى أن تلك المسودة غاب عنها أي تعهّد واضح من طالبان بترك الحرب والتفاوض مع الحكومة، ولا يوجد تعهد حول وقف إطلاق النار. ووفقا لتلك المصادر، فإن الحكومة الأفغانية، وتحديدا الرئيس الأفغاني، غير مقتنعة تماما بالمسودة، وطلبت توضيحات من المبعوث الأمريكي بهذا الخصوص.
إن عدم وجود نص صريح بإجراء مُفاوضات بين حركة طالبان وحكومة أشرف غني في كابول، يعني أنّ الولايات المتحدة تخلّت عن الأخيرة، حسب بعض المحللين، وربّما وافقت واشنطن على شّرط طالبان الأهم، وهو عودة إمارة أفغانستان الإسلاميّة التي أسّستها الطالبان وتم الإطاحة بها أثناء الغزو الأمريكي.
وهذا يكشف عن
استعداد إدارة ترامب للانسحاب بأيّ ثمن، فحركة طالبان لن ترضخ للمطالب الأمريكيّة كاملة، وخصوصا التفاوض مع حكومة غني، كما أنّها لا تملك القدرة الكافية للتصدّي للجماعات المتشددة، والأهم أن طالبان تدرك تماما أن أمريكا باتت مستنزفة في أفغانستان دون تحقيق فوائد مؤكدة، بل خسائر مضمونة.
وحسب مقالة للوريل ميلر، المسؤولة السابقة في وزارة الخارجية الأمريكية والمكلفة بملفي أفغانستان وباكستان، في مجلة "فورين بوليسي"، فإنّ وضع جدول زمني الآن "يعني أن طالبان ستدخل محادثات لاحقة مع الأفغان وقد حققوا بالفعل هدفهم الرئيسي مع تعزيز مكانتهم وقدرتهم على المساومة"، وقالت إنه "يجب أن يكون هناك انسحاب أمريكي مرحلي مرتبط بتقدم محدد في عملية السلام الأفغانية، مثل تبني دستور منقح ينص على تقاسم السلطة وانتخابات لاحقة".
حركة طالبان تجد نفسها في وضعية مريحة، فقد برهنت الحركة على أنها قوة قتالية هائلة في أفغانستان، وأن التوصل إلى سلام لا يمكن أن يتحقق مستقبلا في أفغانستان دون أن تتفاوض حكومة كابول مع طالبان، وباتت الدول الكبرى تتسابق لخطب ود الحركة
لا جدل أن حركة طالبان تجد نفسها في وضعية مريحة، فقد برهنت الحركة على أنها قوة قتالية هائلة في أفغانستان، وأن التوصل إلى سلام لا يمكن أن يتحقق مستقبلا في أفغانستان دون أن تتفاوض حكومة كابول مع طالبان، وباتت الدول الكبرى تتسابق لخطب ود الحركة في سياق تجنب الآثار الكارثية في حال عودة طالبان إلى حكم أفغانستان. وفي سياق اللعبة الاستراتيجية الكبرى، فقد دخلت الولايات المتحدة في مفاوضات مياشرة مع الحركة، بعد أن استضافت روسيا وفدا من الحركة لبحث عملية السلام، واعترفت الصين بشرعية الحركة، فضلا عن سعي الهند وإيران وغيرهما لنسج علاقات ودية مع طالبان.
لم تكن المفاوضات الأمريكة مع طالبان من موضع قوة ونجاح، بل جاءت عقب فشل الاستراتيجيات العسكرية الأمريكية في أفعانستان عن كسر شوكة طالبان، ومحاولة دفعها للقبول بتسوية هزيلة مع ذروة وجود القوات الأمريكية وحلفائها. فقد بلغ عدد القوات الأمريكية ذروته عام 2011، حيث وصل إلى مئة ألف جندي أمريكي، دون تحقيق تقدم يذكر. وقد دفع بروز تنظيم أشد عنفا من طالبان، ممثل بتنظيم الدولة (ولاية خراسان) الولايات المتحدة إلى الإسراع في التفاوض مع طالبان حول الانسحاب، والنظر إليها كحركة وطنية وليس كمنظمة إرهابية.
كانت
حسابات الكلفة/ المنفغة حاسمة في قرار الإدارة الأمريكية بالتفاوض مع طالبان. فقد بلغت نفقات وزارة الدفاع الأمريكية المنظورة لوحدها في أفغانستان 840 مليار دولار، حسب "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية". وحسب الأرقام التي نشرتها وزارة الدفاع الأمريكية، يبلغ مجموع ما أنفقه الأمريكيون عسكريا في أفغانستان، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2001 إلى آذار/ مارس 2019، نحو 760 مليار دولار. ولكن دراسة مستقلة أجراها مشروع تكلفة الحرب في جامعة براون الأمريكية؛ خلصت إلى أن الأرقام الرسمية التي نشرتها الحكومة الأمريكية لا تعكس الواقع إلى حد كبير، وخلصت الدراسة إلى أن الأرقام الرسمية لا تشمل تكاليف الإنفاق على العناية بالجرحى من العسكريين الأمريكيين، ولا الأموال التي أنفقتها وزارات الدولة الأمريكية الأخرى، والمتعلقة بالحرب في أفغانستان ولا الفوائد التي تكبدتها الحكومة بسبب القروض التي أخذتها لسد نفقات الحرب.
وقدرت دراسة جامعة براون كلفة الحرب في أفغانستان بأنها أقرب إلى تريليون دولار، وقد تسببت الحرب بخسائر بشرية كبيرة، وكان نصيب قوات الولايات المتحدة الأكبر مع سقوط 3200 قتيلا ونحو 20,500 جريحا منذ 2001، وهو رقم يتجاوز مرتين حجم خسائر دول التحالف هناك.
المفاوضات بين أمريكا وطالبان جاءت عقب قناعة أمريكية بكلفة الحرب الباهظة في أفغانستان، وأنها حرب بلا أفق وفوضوية، وأفضت إلى ولادة حركة أكثر عنفا وراديكالية من طالبان
وكان الرئيس الأفغاني قد قال في وقت سابق من العام الحالي؛ إن أكثر من 45 ألف من العسكريين الأفغان قتلوا منذ توليه منصبه في عام 2014.
خلاصة القول أن المفاوضات بين أمريكا وطالبان جاءت عقب قناعة أمريكية بكلفة الحرب الباهظة في أفغانستان، وأنها حرب بلا أفق وفوضوية، وأفضت إلى ولادة حركة أكثر عنفا وراديكالية من طالبان، ممثلة بـ"ولاية خراسان".
ويبدو أن ترامب متعجل بالانسحاب قبل الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2020، في إطار سعيه الشخصي للفوز بولاية حكم ثانية. وحسب النائبة الجمهورية ليز تشيني، فإنّه دون تعهد واضح من طالبان بالتنصل من تنظيم القاعدة، ودون آليات للتحقق من تنفيذ تعهداتها "لن ننتهي من الحرب"، وأنه بذلك "سننسحب ونتنازل عن ساحة المعركة لأعدائنا، بما في ذلك التنظيم الذي آوى الإرهابيين المسؤولين عن قتل ما يقرب من ثلاث آلاف أمريكي في 11 سبتمبر".
وحسب مصدر عسكريّ في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، فإنها "حرب قبيحة وفوضوية وبلا نهاية. وقد يكون الخروج (من أفغانستان) فوضويا". ويبدو أن الانسحاب الفوضوي يجعل مستقبل أفغانستان غامضا، وأبعد عن أي يوم مضى عن الاستقرار.