يخطئ من يظن أن قرار بنيامين نتنياهو ضم الضفة الغربية للكيان الإسرائيلي انطلق من الدوائر الإسرائيلية فحسب، فهو أكبر من هذه الدوائر وأخطر من أن يكون صادرا عن جهة واحدة. فبالإضافة للشراكة الأمريكية في هذا القرار الكارثي، فمن المؤكد أن هناك جهات عربية تدعمه لأسبابها الخاصة.
لقد أصبح التخلص من القضية الفلسطينية هما يراود قوى الثورة المضادة التي يتألف تحالفها من السعودية والإمارات ومصر والبحرين، بالاضافة لـ «إسرائيل». هذا الهم ازداد ضغطا على أصحابه في العقد الأخير، وبالتحديد بعد الربيع العربي الذي أرعب انظمة الدول المذكورة؛ نظرا لما يتضمنه من ابعاد استراتيجية ذات اثر مباشر على القضية الفلسطينية. فعلى مدى سبعة عقود متواصلة بقيت فلسطين وقضيتها همّا للمناضلين، ليس في فلسطين أو العالم العربي فحسب، بل حتى في الدول الأخرى من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا وشرق آسيا. وبرغم المؤامرات المتواصلة لإنهائها، ما تزال هذه القضية مشتركة في أذهان المناضلين في بلدان كثيرة؛ سواء كانت تشيلي أم جنوب أفريقيا أم الهند، كما هي همّ للمناضلين خاصة النقابيين في أغلب الدول الأوروبية. وقد ساهمت القضية في بلورة فهم عام مشترك بين المناضلين بأنها تجسيد للصراع بين البرجوازية والطبقة العاملة، بين المستعمرين وحركات التحرر، بين الرأسمالية والاشتراكية، بين الحالة الإسلامية وأعدائها، وبشكل عام، بين الحرية والاستبداد. هذه السمات لم تتوفر عليها إلا قضايا محدودة منها الصراع ضد النظام العنصري في جنوب أفريقيا، والحركات المناهضة للاستعمار في دول العالم الثالث، خصوصا في الهند بزعامة المهاتما غاندي. وأصبحت قضية فلسطين مرتبطة بشكل مباشر بالقضايا الثورية وسمة لكل مناضل، وعنوانا لكل نظام ثوري ينتصر على القوى الرجعية (التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية) في أي بلد من بلدان العالم الثالث.
قرار حكومة نتنياهو ليس مزحة أبدا، بل مؤشر لمشروع خطير تتواصل فصوله دون توقف. فنقل الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس كان خطوة خطيرة على طريق مصادرة القدس جملة وتفصيلا وتجميد القرارات الدولية التي تقضي بعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي لهذه المدينة المقدسة. كما ان السياسات المتواصلة لتهويد المدينة وغلق مساجدها، والاقتحامات اليومية للحرم القدسي من قبل وزراء حكومة نتنياهو والعناصر المتطرفة، كل ذلك يؤكد وجود خطة خطيرة لانهاء القضية الفلسطينية بالوسائل كافة: العسكرية والسياسية والدبلوماسية. ولضمان دعم عربي رسمي لتلك الخطة الإجرامية، فقد تم توظيف عدد من الحكومات العربية ضمن مشروع تصفية القضية. وما التطبيع المتواصل مع الإسرائيليين من قوى الثورة المضادة إلا جانب من خطة تصفية القضية. وللتشويش على عمق الخطة وشمولها وحجمها الكبير، اختيرت حكومة البحرين لتتصدر مشهد التطبيع، وفق خطط نفسية لتحييد المشاعر العامة العربية والإسلامية تجاه القضية. ومن الخطأ قراءة تصريحات وزير خارجية البحرين الداعمة لـ «إسرائيل» والمبررة لجرائمها وعدوانها على الدول العربية والإسلامية الإقليمية، بانفصال عن مجمل الخطة الهادفة لتصفية القضية. كما أن استقبال الوزراء الصهاينة في المنامة وفتح المجال لهم للتجول في المناطق الشعبية، ليس قرارا خاصا بحكومة البحرين، بل جزء من مشروع التطبيع الذي لا يمكن أن ينجح في ظل استمرار القضية الفلسطينية. فلا بد من غلق ملفها لتختفي من الوجدان الشعبي العربي والإسلامي تدريجيا.
الإجراءات الإسرائيلية، المدعومة أمريكيا، لمحو فلسطين وكسر شوكة أهلها متواصلة، ويعتقد مخططوها أن تباعد الأجيال المقبلة عن أصل القضية سيصرف الأنظار عن عنوان اسمه «فلسطين»، وستصبح «إسرائيل» حقيقة واقعة لا يستطيع أحد إلغاءها. هذا ما يصرح به بعض السياسيين وفي مقدمتهم وزير خارجية البحرين «الواقعي» الذي لا يتعب نفسه في الحلم بقيام دولة فلسطينية، أو إنكار وجود «إسرائيل». الواقعية في نظر المهزومين أن تقبل الوضع القائم وتستسلم له. الواقعية أن تستسلم لعدوك، خصوصا إذا كان سيحميك من غضب القريبين منك حين تختلف معهم. الواقعية تعني غياب المبادئ الثابتة أو القيم الإنسانية أو المرجعية الفكرية أو الأخلاقية أو الدينية، التي تفرض عليك مواقف قد تتناقض مع ما تعتقد أنه «واقعي». ولكن في مقابل هذه الواقعية هناك الحق الذي لا يسقط بتقادم الزمن، بل يبقى ثابتا يستهوي جماهير واسعة مستعدة للدفاع عنه. هذه الجماهير قد تكون أطفالا لا تملك سوى الحجر الذي تستخدمه لحماية نفسها، أو بيانا بليغا يؤكد قداسة الحق والموقف المؤسس عليه. الإسرائيليون ينطلقون من «مبادئ» وضعوها لأنفسهم وصاغوا سياساتهم لتتناغم معها، والإيمان بها ليس محصورا بهم فحسب، بل يتم إجبار المنبطحين من الحكام العرب على الاستسلام لها وترويجها. فعندما ذهب «المدون» السعودي محمد سعود الذي طرده الفلسطينيون من القدس في شهر تموز/يوليو الماضي إلى القدس لترويج التطبيع مع الاحتلال، كان ذلك ضمن مشروع التطبيع الذي يتم ترويجه بهدوء. كما انهالت الجماهير بالنقد اللاذع لوزير خارجية البحرين عندما برر العدوان الإسرائيلي على ثلاث دول عربية: لبنان وسوريا والعراق وقطاع غزة.
الإسرائيليون مستمرون في سياسة إزالة الوجود الفلسطيني من الضفة الغربية، ويخططون لعدوان واسع على القدس. وفي ظل صمت العالم العربي الذي يقوده في الوقت الحاضر تحالف قوى الثورة المضادة، شعر المحتلون بالقوة، فضاعفوا في الفترة الأخيرة عدوانهم على الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة كافة.
وفي الأسبوع الماضي، سلمت قوات الاحتلال عائلتي الأسيرين نصير وقاسم عصافرة (من بلدة بيت كاحل شمال الخليل) إخطارات بهدم منزليهما؛ بتهمة تنفيذ عملية قتل مستوطن. برغم ذلك يعيش الإسرائيليون حالة توتر دائمة، فلا يتوقفون عن القتل أبدا، ولا يشعرون بالأمن ما دام الفلسطينيون يشعرون بحقهم في أرضهم المحتلة؛ لذلك يقتلون ويسجنون ويبعدون ويهدمون ويدمرون. وقد استفادوا كثيرا من تواطؤ قوى الثورة المضادة مع جرائمهم، والاستمرار في التعتيم على جرائم الاحتلال. ومع استمرار مسيرات العودة التي تخرج كل أسبوع من داخل غزة إلى الحدود التي فرضها الإسرائيليون على القطاع، يتواصل سقوط الشهداء الذين يتجاهلهم بشكل كامل إعلام الأنظمة العربية، التي قطعت أشواطا في التطبيع مع إسرائيل. هذا العالم الذي يتنكر للحرية وحق البشر في العيش أغمض عينيه على قتل علي سامي علي الأشكر، ذي السبعة عشر ربيعا على الحدود مع غزة. وأكثر من 300 سبقوه. وما أكثر الدماء التي أراقها الاحتلال في مسيرات العودة هذه، بينما تواصل الأنظمة علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي دون مساءلة أو عتاب للسفاحين المحتلين.
التواطؤ مع الاحتلال اتخذ أشكالا تثير التقزز والغضب. إنه تواطؤ لا يقتصر على ترويج حق قوات الاحتلال في البقاء على أرض فلسطين فحسب، أو السعي للتطبيع معها أو الاعتراف بالكيان الذي يحتل أرض فلسطين، بل أصبح المطبعون يستهدفون العناصر المقاومة للاحتلال بشكل مكشوف. وما الحملة الأخيرة التي تشنها السعودية على منظمة «حماس» واعتقال من تشك في تعاطفه معها سواء من المواطنين السعوديين أنفسهم أم الفلسطينيين العاملين في الجزيرة العربية، إلا تأكيد لسياسة القضاء على الكيانات الفلسطينية المبدئية كمطلب إسرائيلي محوري. القلق الإسرائيلي ومعه داعموه المذكورون يتصاعد مع إصرار الفلسطينيين على الصمود والتصدي للاحتلال والعدوان، خصوصا مع امتلاكهم أسلحة جديدة، أعادت قدرا من التوازن العسكري مع العدو. فانتشار الطيارات المسيرة والصواريخ المتطورة سواء في فلسطين أم اليمن، أصبح هاجسا لدى الجهات التي تمارس العدوان على الآخرين وتحتل أراضيهم، وتعتقد أنها قادرة على الهيمنة المطلقة وتحقيق النصر العسكري الحاسم. وسرعان ما تصطدم بالواقع. وقد جاء استهداف منشآت أرامكو النفطية في منطقتي بقيق وخريص الأسبوع الماضي، ليظهر فداحة الوضع الذي تعيشه السعودية بسبب عدوانها على اليمن.
من هنا يتأكد استحالة تصفية القضية الفلسطينية بالطريقة التي يأملها نتنياهو وداعموه، فهي قضية شعب وليست قضية سلاح، والشعوب الأبية لا تستسلم مهما كان ثمن الصمود، هذا درس من فلسطين وأفغانستان واليمن، لمن أراد أن يتعلم أو يفهم.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية