اكتشفتُ كتابات عباس العقاد في فترة المراهقة المبكرة، جنبا إلى جنب مع أنيس منصور ومصطفى محمود. وحين تعرَّفتُ على الرافعي وطه حسين والمنفلوطي، وأحمد أمين ومحمود شاكر وعبد الرحمن بدوي؛ سقط منصور والعقاد، ثم سقط المنفلوطي وطه حسين، وحلَّ محلَّهم توفيق الحكيم وباكثير والسحار ونجيب محفوظ.. إلخ. وهكذا دواليك، مع جمهرة
المفكرين والكتاب المصريين والعرب في القرنين الأخيرين؛ إلى أن تعرَّفتُ على آل قطب.. فسقط الجميع وأمسوا مجرد هوامش باهتة لا ملامح لها.
وأمست آلاف الصفحات التي سوَّدها أكثر الكتّاب المصريين والعرب "بلا قيمة". إذ كانت صفحات ميتة، والناس لا يتبنون الأموات. أما صفحات سيد وإخوته، فقد كانت تنبِضُ بالحياة والحريَّة والإخلاص؛ حياة زكية حارة أريقت على جوانبها دماء أزكى وأكثر حرارة.
أما كتابات آباء "الإسلاميين" المبكرة، أمثال محمد محمد حسين، وفريد وجدي، وأنور الجندي، ومصطفى السباعي، ومن لفَّ لفهم؛ فلم أجد فيها حياة، حاشا بعض كتابات خالد محمد خالد ومحمد الغزالي وعلي الطنطاوي، وأحيانا في القليل مما خطَّهُ سعيد حوى ومحمد البهي. أما البقية الباقية فكانت كلها عندي ردود فعل قاصرة وباهتة؛ ماتت بموت أصحابها، أو أمست كالجرائد القديمة لا قيمة لها إلا القيمة المتحفيَّة التي توثِّق العصر.
وحين وصلت إلى جيل مما يُسمى بـ"الإسلاميين المستقلين": محمد عمارة والبشري وسليم العوا وكمال أبو المجد وفهمي هويدي، وطبقتهم؛ وجدت أن ردود الفعل قد ازدادت تهافُتا، فلم أر في كتابات هذا الجيل (مع عظيم تقديري لشخوصه) سوى رِدَّة حقيقية؛ ردَّة حتى عن موقف أسلافهم "الإسلاميين" من "المدافعين" عن الإسلام في وجه الهجمة الاستشراقيَّة! مواقف متلوِّنة ولغة مراوغة وتصورات مشوَّشة، وإن كان بعضهم قد برع في"تصديه"للكنيسة و"العلمانيين".
ثم كانت كتابات بيغوفيتش والمسيري هي ما استنقذني الله به مطلع العقد الفائت (2001-2003م)، من كتابات "الإسلاميين المستقلين"؛ فوجدت حُجَّة الإسلام الغزالي يتجدَّد فيهما.. جسَّده بيغوفيتش في المقاصد والمسيري في التهافُت؛ فكانا خير خلفٍ لخير سلف، فتجدَّد بهما الدرس الكلامي والفلسفي بعد أن ركد وكسد مئة عام أو يزيد.
لكن ظلَّ محمد أسد مصدر إلهامٍ عظيم لي، إذ هو ليس مجرَّد استمرار لتقاليد الرحالة المسلمين الكبار كابن جبير وابن بطوطة فحسب؛ بل هو تجسيد لرحلة إنسان من حمأة المادية إلى سلامة الفطرة، ومن العُجمة إلى التعرُّب، ومن ليوبولد فايس إلى محمد أسد. تلك الرحلة المركَّبة التي تكشِفُ للمتأمل معنى الانسلاخ التام لإنسان معاصر من كل المعطيات والموروثات والتقاليد الجاهلية، قبل الإقبال على الإسلام. كانت قطيعة محمد أسد التامَّة مع كل ماضيه صاعِقة بالنسبة لي، وكانت وما زالت فذَّة حتى بالمقارنة مع ما تلاها من تجارب مشاهير الغربيين المتحولين إلى الإسلام. إذ لم أكن أتصوَّر وجود مثل ذلك النموذج، الشديد الصدق مع نفسه في طلب الحق؛ بعد سيدي سلمان الفارسي رضي الله عنه، بل وفي العالم الحديث.
وقد كان الأستاذ المودودي جافّا شديد الجفاف؛ تقرأ له فلا يتحرَّك شعورك؛ كأنه يحدثك عن دين غير الدين وعالم غير العالم، وقد كنت أفضل عليه أبا الحسن الندوي كثيرا؛ فقلبه رحمه الله أشد حضورا، وكذا كانت رؤيته أكثر تركيبية. ولم يكن نثر إقبال بعيدا عن جفاف المودودي، رغم نداوة شعره وحرارته. ثم إني لما عثرت بعلي شريعتي أسقطتُ المودودي نهائيّا؛ فقد وجدت ذات الجرعة الأيديولوجية لكنها مُغلَّفة بروح متوهجة كروح قطب، فأقبلت على
كتبه بنهم شديد، وما أن انتهيت منها حتى تجاوزته وأنا أحبه. كان نسقه يُشبِهُ السجن بصلابته الأيديولوجية، لكن روحه المتوهِّجة بإخلاصه وصدق معاناته تجعل من إقبالك عليه عملا ميسورا شديد اليُسر، وليس في صعوبة مُصاحبة المودودي.. رحمهم الله جميعا.
ورغم إعجابي لفترة جد قصيرة؛ بالمعلوماتيَّة الفياضة بشناعة من كتابات غارودي، وجمهرة اليسار المتحوِّل إلى الإسلام؛ فإني وجدته ككل جيله من الماديين الفارّين إلى الإسلام: ثرّ المعلومات، عميق القدرة على التحليل، وهي إحدى "حسنات" العقلية الماركسية الكلاسيكية؛ لكن نسقه الكلي مشوه بشكل واضح! مثله في ذلك مثل جلال كشك، وصافيناز كاظم، وعابد الجابري، وعادل حسين، وجلال آل أحمد، ومنير شفيق، ومحمد عمارة، ومالك بن بني، ومراد هوفمان.. إلخ. لكني رغم ذلك مدين لهذا الجيل، فلولاهم لما عرفت كنه الردة التي أصابت الخطاب الإسلامي على أيديهم، ولا ماهيتها. هذا الخطاب الذي تأدلج على يد المودودي وزاده شريعتي صلابة، وتكلَّس على يد فتحي الشقاقي ورفيقه محمد مورو، متعه الله بالعافية.
كذا، أدركت، في كتابات هؤلاء المتأخرين؛ أبعاد العلاقة بين الأدب والأيديولوجيا، وبين التصوف والأيديولوجيا، لأكتشف أن النسق الأيديولوجي عند هذا الجيل يكون في أضعف حالاته وأقلها صلابة في حال الاشتغال بالأدب، أو الانتماء لطريقة صوفية. ففهمت لمَ كان النسق الأيديولوجي المادي باهتا خافت الملامح عند المسيري وجلال آل أحمد، لكنَّه في أصلب صوره وأكثرها شراسة عند غارودي ومحمد عمارة.
ثُم كان سيد حُسين نصر تجلٍّ ناضِج للعرفان النظري حين يتجاوز المذهبية، ويُنيخ في سلوكٍ صوفيٍّ رفيع وموقفٍ واعٍ من فساد علوم العصر الطبيعية؛ نُضجٌ مصدره رسوخ القدم في المعارف الإسلامية التقليدية ومعرفة بأصول الإسلام محدودة التشوش. لكن تصوره سكوني للأسف، ومبعث ذلك نمط حياته الشخصية والأكاديمية.. فوصلت، باقترابي منه؛ إلى استصحاب حركيَّة قُطب الصوفية، مع التزكية المنهجية التي يُجرِّدها نصر، تحدوني التجربة الثرية للإمام الخميني بوصفها تحليا حركيّا سياسيّا للتقليد العرفاني/ الصوفي في الإسلام.
* * *
لقد أردت بهذه الهوامش والملاحظات القصيرة، على كتابات بعض المحدَثين الذين مررت بهم؛ أن أعبِّر للقارئ عن اتصال التاريخ الثقافي والفكري لهذه الأمة، وعدم انفصاله، مهما باعد بين أفرادها الزمان والمكان؛ وهو الاستمرار الذي شكَّل اهتمام كاتب هذه السطور بتاريخ الأفكار وعلم اجتماع المعرفة. إن هذه الملاحظات المبتسرة لا توفي هؤلاء الكتاب حقهم من المناقشة بطبيعة الحال، وإنما تُسجِّل الانطباع النهائي لكاتبها عنهم، بعد مرور فترة زمنيَّة مُعتبرة على صحبته لهم؛ فترة أحسب أنها أنزلت كلّا منهم منزلته في مسيرة هذه الأمة، ووضعته داخل سياقه التاريخي؛ بغير إفراطٍ ولا تفريط.
إنها ملاحظاتٌ هدفها رسم صورة "كليَّة" شديدة الاختصار، صورة تُعين على الفهم، وليست محاولة للحكم بإخراج بعضهم من "الفرقة الناجية". وإذا كان الفهم لا يَستَقِلُّ بطبيعة الحال عن الحكم، فإنه ليس حكما مطلقا بالنبذ؛ فربما يكون بعض المذكورين قد لعب دورا مختلفا (وأكثر أهمية) في حيوات آخرين. ولذا، فقد يجد القارئ بين طيات كتبهم ما لم أجده. بل وقد يكون بعض من أغفلت ذكرهم أهم عند بعض القراء ممن ذكرت. المهم أن يدرك القارئ أنها ليست أحكاما اعتباطيَّة، بل ينتظمها منهج واحد للنظر، ولو كان كامنا.