أعتقد أن إعلامنا الرسمي وغير الرسمي مقصر تماما في شرح أبسط المبادئ الاقتصادية للناس. ولذلك نرى عبر وسائل الإعلام خلطا كبيرا في هذه المفاهيم. ولمّا يبث شخص معروف أرقاما عبر الإنترنت تبين حصيلة الدولة من مصانعها وخدماتها وشركاتها ويصل الرقم فرضا إلى خمسين مليار دينار، ثم يقول إن الحكومة أنفقت منها (8) مليارات، فأين ذهب باقي الرقم أو الـ(42) مليار دينار، فهو يخلط بين أمور ثلاثة.
هذا يعني أولا أنه لا يفرّق بين مداخيل الدولة وإيرادات الحكومة. ويعتبر الاثنين واحدا، وهذا يدل على عدم إدراك للفرق بين الحكومة والدولة.
والثاني أنه لا يعرف الفرق بين الدخل الإجمالي والدخل الصافي. فالدخل من السياحة قد يصل إلى (4) مليارات، ولكن الإنفاق للحصول على هذا الدخل يصل إلى (2) مليار، فهذا يعني أن الدخل الإجمالي (4) مليار، والدخل الصافي (2) مليار.
ولو كان يقرأ مثلا جدول المدخلات والمخرجات لعلم أن حساب الدخل الإجمالي لكل القطاعات قد يصل إلى (70) مليارا، ولكن هذا ينطوي على مغالطة كبيرة وهي ازدواجية الحساب. فلو حسبنا مثلا الدخل من قطاع الزراعة، (3) مليارات، والدخل من قطاع النقل (3) مليارات، والدخل الإجمالي من الصناعة (5) مليارات، وأخذنا الأرقام كما هي، فإننا نحسب مقدار النقل في الزراعة مرتين، وفي الصناعة مرتين، ودخل الصناعة من قطاع الزراعة مرتين.
ولذلك عند حساب الناتج القومي الإجمالي تلغى الازدواجية في الحساب، ويبقى الرقم الإجمالي الصحيح.
وثالثها أن الحكومة لا تنفق كامل الناتج المحلي الإجمالي، فهناك القطاع الخاص، الذي هو أكبر من الحكومة. ثم يجب أن تطرح المستوردات من الناتج المحلي الإجمالي لأنها وإن بيعت في الأردن، إلا أنها لم تنتج فيه، بل في بلدان أخرى.
وعندما نوزع هذه الرسالة الصادرة عن شخصية عامة متعلمة ومعلمة، فإن الناس العاديين سوف يقعون في شَركِها لأنهم سيصدقونها. وبذلك يحصل خلط وتشويش كبير ونصُبّ الكاز على نار الغضب عند الناس، فنخلق حالة من الشك والارتياب.
أذكر مرة في مجلس من مجالس الوزراء التي شاركتُ فيها، أن وزير المالية آنذاك نسّب إلى المجلس موافقته على نقل مخصصات من فائض لدى وزارة الزراعة لتمويل عجز في وزارة الشباب. فقام أحد الوزراء قائلا: "وما الفرق، ما هيه القضية من العِب للجيبة، ومن الجيبة للعِب".
وكنت أيامها صغيرا نسبيا في السن، وما أزالُ تحت تأثير عملي كرئيس لدائرة البحوث الاقتصادية في البنك المركزي الأردني. ولما سمعت ما قاله الوزير صرخت محتجا. "هل هذا هو الأسلوب الذي تصرف به الأمور وتؤخذ فيه القرارات؟" فطلب مني رئيس الوزراء أن أفسر ذلك.
قلت إذا كانت المناقلات من وزارة لأخرى هي نقل من الجيبة إلى العب وبالعكس، فلماذا نتعب أنفسنا في وضع موازنات عامة، ونعمل مخصصات للوزارات؟ والقضية ليست قضية محاسبية، بل اقتصادية، فعند المحاسب، الدينار يساوي دينارا سواء كان بوزارة الشباب أو الزراعة أو الصحة. أما عند الاقتصادي، فالدينار بوزارة الزراعة لا يساوي دينارا لدى وزارة الشباب. ومضيتُ قائلا ولا الدينار بيد الساذج كالدينار بيد الحصيف، ولا الدينار المسروق منك يساوي الدينار الذي سقط من جيبك في بئر ماء.
المنطق بسيط وقوي. ومهما كانت الحقائق الاقتصادية بسيطة إلا أنها عميقة ومعقدة. وكثيرون منا يتمتعون بحكمة اقتصادية قائمة على الحدس، وتجارب شخصية، وإن كانت لا تتطابق مع المنطق الاقتصادي الرصين.
يجب أن يكون هناك منصة إعلامية ترد على هكذا أقوال ومواقف وإشاعات فور ظهورها. ويجب أن تقوم أجهزة الإعلام بإنتاج برامج تجيب على أسئلة الناس، وتوسع مداركهم حول الحقائق، وتتكلم معهم بوضوح وثقة. ويكون للقائمين على هذا البرنامج التوعوي مطلق الحرية لقول الحقيقة سواء ساندت الموقف الحكومي أم وجدته مغرقا في الضلالة، حتى يكسب ثقة الناس.
كثير من الحقائق المتداولة حول مشاريع البنى التحتية وأكلافها، وموازنات الشركات، حجم الفساد وكُلَفِهِ، وأسعار الطاقة، وحجم الرسوم وغيرها بحاجة إلى توضيح وتعليق بشكل منفتح يضع الأرقام أمام الناس، ويفسر معانيها لهم. أما هذا الفلتان في المبالغات، فهو ضارّ بالمجتمع وناخر في أسسه.
(عن صحيفة الغد الأردنية)