“ثروة” الثورات!

مرور اثنين وثلاثين جمعة من الحراك، هو عمر طويل، من المفروض أن يعطي الجزائريين الثمار الأخلاقية المرجوة التي شاهدها الجزائريون في “الجمعات" الأولى، عندما حوّلوا شوارع مختلف البلديات إلى مدن فاضلة فيها التضامن والنظافة واللباقة، ولكن للأسف طال زمن المخاض، وصرنا نخشى أن يكون المولود مشوّها، ونضيّع على أنفسنا أهمّ فرصة سنحت لنا منذ الاستقلال لإعادة القاطرة إلى سكّتها، بعد أن تاهت على مدار عقود، كلما تقدمت ميلا، إلا وابتعدت أميالا عن الطريق، حتى يئس الجزائريون من العودة.

من دون البحث عن السبب الظاهر والأسباب الخفية، فإن الجمعة الأخيرة سقطت من صورها الكثير من الفضائل التي تباهينا بها بين الأمم، فقد حدث الخلاف وللأسف أفسد للودّ قضية، وظهرت هتافات هجينة، تطالب بالتحضّر بكلام نابي، ولافتات تطالب بالديموقراطية بطريقة ترفض الآخر، وبعد أن كانت المسيرات ملتقى وطني لكل فئات الشعب ولكل الأجيال الذين تابعوا سويّا انهيار الأصنام التي كانت تفرض على “الناس" عبادتها، واحتفلوا بسقوط مؤامرة العهدة الخامسة، وجرّ “فراعنة" الحكم والتسلّط، و"هامانات" الدعم والمساندة و"قارونات" المال والأعمال إلى السجون، بدأ الخوف يتسرّب إلى القلوب، ليس من ضياع الحلم فقط، وإنما من تحوّله إلى كوابيس العنف التي عاشها الجزائريون منذ سنوات خلت.

خطأ الجزائر الكبير بعد الاستقلال حدث عندما تمّ التعامل مع ثمار الثورة، على أنها غنيمة حرب، فصار الانتماء للثورة ولو بالزيف والزور مسعى للملايين من الجزائريين من أجل كسب المنح التي لم تتوقف بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، وللحصول على امتيازات ظلت قيمتها المادية ترتفع على طريقة المتتاليات الهندسية، حتى أن ميزانية وزارة المجاهدين أهمّ وأكبر من ميزانيات التعليم العالي والبحث العلمي والصناعات الثقيلة والخفيفة والفلاحة مجتمعة، وكل المجاهدين الحقيقيين، على قلّتهم، اعترفوا بأن راكبي الثورة في ساعاتها الأخيرة وفي أوقاتها البديلة وما بعد زمنها، هم الذين ميّعوا مغزاها وحوّلوها إلى حصّالة تبتلع الثروة باسم الثورة. وللأسف بدأ التاريخ يعيد نفسه، وصار يطلّ علينا بين الحين والآخر من يتحدّث باسم الحراك، ويريد اليوم قبل غد، حصد ثمار، كلنا نعلم بأنه لم يكن فيها من الزارعين.

مؤلم أن تتحوّل الصورة بعد هذا المخاض إلى ما هي عليه الآن من ضبابية، فلا الشارع أبان حقيقة ما يريد، ولا السلطة أقنعت بحلولها المقترحة، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فكنا سنستسلم لمزيد من الصبر، ولكن أن ينقسم الشارع وتنقسم السلطة، فتلك أسوء نهاية لقصة جميلة، كتبناها جميعا، ونُساهم جميعا في تلويثها.

عن صحيفة الشروق الجزائرية