أنهينا المقال السابق بعبارة تلخص المتحصل من مشاهد ما بعد عشرين أيلول/ سبتمبر؛ " هذا هو مسرح المشهد بكل عناصره ومقوماته لحراك الجمعتين.. وعن الجمعتين حديث آخر يحمل في طياته المعنى الأكبر بأن عجلة التغيير قد دارت، وأن حاجز الخوف على فاشية النظام قد كُسِر، وأن الشعب أكد أن الثورة لا زالت تسكن بين جوانحه، وأن استئناف الثورة أمر صعب وليس باليسير، ولكنه ليس مستحيلا، وأن إحياء الثورة قابل للاستئناف.. ولحديث الجمعتين مقال قادم".
أردنا من هذا المقال السابق أن نعرف أن شأن السياسة وتحليل الأحداث المتعلقة بها؛ لا يحتمل ولا يتحمل أوصافا مثل التشاؤم والتفاؤل.. علّمنا ذلك الدرس في زمن مضى أستاذنا الكبير الدكتور حامد ربيع، حينما سألنا سؤالا للاستدراج: هل نحن في وضع يدعونا للتفاؤل أو التشاؤم؟ كنا طلبة في السنة الرابعة، فانقسم الطلاب بين متفائل ومتشائم، وبعد برهة من استطلاع الآراء ألقى على مسامعنا كلمات أظنها كلمات ذهبية من أستاذ قدير؛ أن السياسة لا تعرف التفاؤل والتشاؤم ولا تقاس بهذه الأوصاف.. للسياسة قوانين كبرى تحكمها وتظلها، وفهم تلك القوانين وفعلها هو أهم شروط الوعي السياسي وما يترتب عليه من حركة سياسية.
أقول ذلك ونحن في مفتتح الكلام عن الجمعتين ما بعد العشرين من أيلول/ سبتمبر، حتى نستلهم تلك المعاني التي وصانا بها الدكتور ربيع، ذلك العالم الذي آمن بالوظيفة الكفاحية لعالم السياسة.
السيسي المنقلب هذا شأنه.. وصفه محمد علي (الفنان- المقاول) بممارسة الفساد والكذب والخيانة؛ والطاغية صناعته الاستخفاف والاستبداد وتشكيل القطيع وتكريس حالة الاستعباد، وهو حينما يمارس استبداده في ظل استراتيجيته التي تتعلق بالإفقار والتجويع والترويع والتفزيع؛ إنما يريد بذلك أن يشكل أمرا واقعا يسلس فيه قياد الناس واستعبادهم، ومن ثم فقد مارس كل أنواع العسف والقهر والقوة والكبت وتكميم الأفواه ليصنع مجتمع الخوف.. أراد بذلك أن يصدر تلك الطبعة الجديدة التي يحكم فيها سياسات نظامه، وإحكام كل طريق لمنع تكرار ما حدث في ثورة يناير 2011.. قرر أن يستعبد الناس وأن يصنع الكراهية، وأن يحدث صدعا في المجتمع، وأن يحرص على تمكين لغة الاستقطاب بين الرفقاء ليكونوا فرقاء وربما أعداء.
أراد أن يمكّن لسياساته في إطار الاستراتيجية الاستعمارية "فرق تسد".. المستبد من أنواع السيسي لا يفترق في ممارسة استراتيجيات الاستعمار في هذا المقام، ويتحرك لا يرى إلا نفسه ولا يرى إلا كرسيه
كانت تلك الجمعة جمعة احتجاجات ظن البعض أنها لن تكون، ولكنها وصلت إلى الميادين واتسعت في جغرافيتها، حتى شملت المحافظات والأقاليم
في جمعة السابع والعشرين نال السيسي بعض الدعم من ترامب وفي إطار اعتماده في شرعنته على الخارج لا الداخل ومستقويا بذلك.. قرائن عدة عن تصاعد الدعم الخارجي تمثلت في تصريحات هستيرية من داخل الكيان الصهيوني؛ من جهات إعلامية بل ومن حاخامات وشخصيات دينية وجهات شبه رسمية، كلها تدور حول حماية السيسي والمحافظة عليه في سدة الحكم بعد أن استثمر الكيان الصهيوني فيه.. هذه التصريحات الكاشفة إنما تؤشر على سياسة أخرى في تلك الجمعة لا تعبر عن مواجهات من أجهزة الأمن للمحتجين والمتظاهرين بالوسائل الاعتيادية، بل إن السيسي أراد أن يمنع كل طرق الاتصال بين هؤلاء من خلال استراتيجية تقطيع الأوصال التي يتبعها الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وهو أمر لا يستبعد معه أن يقوم هؤلاء الصهاينة بأداء النصائح له في مواجهة تلك الانتفاضات، ضمن سياسات تقطيع الأوصال وإقامة الكمائن وانتشارها لقطع أي آليات تواصل أو اتصال بين المنتفضين والغاضبين؛ فضلا عن مواجهتهم بالطرق الأمنية، فإن كان لهم تجمعات فتكون محل استهداف..
هذه الطريقة المعتمدة من قبل المحتل الصهيوني الغاصب في مواجهة الاحتجاجات في وسط غاضب، وحاكى السيسي ذات الأسلوب من خلال مستشاريه من الصهاينة، ليجعل من الجمعة الثانية محاولة لإجهاض حركة الغضب والمحتجين المعبرين ذلك.
الجمعة الأولى تمت إدارتها بشكل يختلف عن الجمعة الثانية؛ والأسلوب الذي اتبعه النظام في فترة ما بين الجمعتين يعطي دلالة على رعب النظام وخوفه الشديد من أي تحرك