لن نضيف جديدا في الحديث عن مخاطر
سد النهضة على
مصر والمصريين، خصوصا إذا أصرت إثيوبيا على تنفيذ خطتها بملء خزان السد خلال ثلاث سنوات فقط، وهو ما يحرم مصر خلال هذه السنوات على الأقل من نصف حصتها التي لا تكفيها بالأساس.
المهم الآن هو سبل المواجهة لهذا الخطر الداهم، وقد أسهب الخبراء والمختصون في طرح بعض الحلول والبدائل، والتي تبدأ بترشيد استهلاك
المياه من عموم الشعب، أو توفير بدائل عبر تحلية مياه البحر.. الخ، وتنتهي بشن ضربة عسكرية ضد السد؛ تعطل بناءه قبل أن يكتمل.
من نافلة القول أن كل الحلول التي طرحها الخبراء أو طرحتها أذرع النظام هي من قبيل المسكنات أو الحلول الجزئية التي لا تروي غليلا، باستثناء العمل العسكري المباشر، وهو قرار صعب لا يجرؤ عبد الفتاح السيسي على اتخاذه، بسبب ضعف نظامه وهشاشته، وخشيته من غضب كفلائه الإقليمييين والدوليين الذين يدرك أنهم وراء بقائه في السلطة.
الحل الحقيقي هو أن تدرك إثيوبيا أن مصر دولة قوية فعلا، وأن بإمكانها عمل الكثير، سواء بشكل سلبي أو إيجابي لإثيوبيا، وأنها لا يمكن فعلا أن تقف مكتوفة الأيدي أمام تعطيل أو تعثر شريان حياتها، وهذا لا يكون إلا في ظل دولة مدنية ديمقراطية، ذات حكومة منتخبة بإرادة شعبية حقيقية، وبشعب موحد خلف هذه الحكومة المنتخبة، وجيش قوي متفرغ لمهمته العسكرية بعيدا عن الانشغال بالسياسة أو الاقتصاد، ومؤسسات مجتمع مدني نشطة تقوم بدور الدبلوماسية الشعبية الداعمة للدبلوماسية الرسمية، ليعزف الجميع سيمفونية واحدة ويقف الجميع وقفة واحدة ضد الخطر الذي يهدد حياتهم.
لقد أدركت إثيوبيا مبكرا حالة الانقسام التي يعانيها الشعب المصري، ووجدت فيها فرصتها السانحة لتنفيذ حلمها الذي لم تستطع تحقيقه عبر العقود الماضية، وقدم السيسي أكبر هدية لإثيوبيا بانقلابه العسكري في الثالث من تموز/ يوليو 2013؛ ضد رئيس هدد إثيوبيا بأن دماء المصريين ستكون بديلا لأي نقص في مياه
النيل، (كتعبير مجازي عن الاستعداد لبذل الدماء دفاعا عن النيل). لقد بنى هذا الانقلاب وجوده بالأساس على تقسيم الشعب المصري إلى شعبين "انتو شعب وإحنا شعب.. لينا رب وليكو رب"، ولأن السيسي وصل إلى السلطة على جماجم المصريين وبعدم رضا غالبيتهم، فقد ظل طوال الوقت يبحث عن شرعية خارجية، سواء في أفريقيا أو الغرب. وفي أفريقيا التي جمدت عضوية مصر في اتحادها القاري بسبب الانقلاب، قدم السيسي عربونا جديدا للعودة إلى عضوية الاتحاد عبر توقيعه على إعلان المبادئ مع إثيوبيا والسوان في آذار/ مارس 2015، والذي منح بموجبه إثيوبيا حق بناء السد، كما فتح بمقتضاه الطريق أمام الممولين والمستثمرين الأجانب لضخ تمويلاتهم الضخمة في السد الإثيوبي؛ الذي كانوا يحجمون عن تمويله من قبل تقديرا أو خوفا من غضب مصر.
وإذا كانت مشكلة السد تمتد لما قبل ثورة يناير، فإن المسؤولية الأكبر عن بناء السد تقع على كاهل عبد الفتاح السيسي بحكم توليه ثلاثة مناصب متعاقبة، كانت جميعها صاحبة قرار في ما يخص هذه القضية، بدءا من موقعه كمدير للمخابرات الحربية في عهد مبارك، مرورا بموقعه كوزير للدفاع في عهد الرئيس مرسي ثم في عهد عدلي منصور، وصولا إلى استيلائه الكامل على السلطة، وتوقيعه على إعلان المبادئ المذكور آنفا. ورغم أن المنطق يقول إن من صنع المشكلة هو المنوط به وحده (وليس غيره) حلها، فإن الواقع يؤكد أن السيسي غير قادر على الحل، بل إن استمراره على راس السلطة سيكون هو أكبر ضمانة لاستمرار بناء وتعلية السد وبناء سدود أخرى. فقد وقع الجنرال في براثن الصهيونية الراعية له والداعمة في الوقت نفسه للمشروع الإثيوبي، وهو يدرك أن الخروج عليها وعدم إطاعة تعليماتها سيعرضه شخصيا للخطر.
إن فوز رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام، والذي منحه قوة معنوية جديدة على الصعيد الدولي، لا ينبغي أن يكون مدعاة للاستسلام في مواجهة الخطر المحدق بمصر، بل إن هذه الجائزة بحد ذاتها (بغض النظر عن انحيازاتها) قد طرحت الحل في ثناياها. فإلى جانب تحقيق السلام بين إثيوبيا وإرتريا، فقد قدمت لجنة منح الجائزة حيثيات أخرى دفعتها لمنحها لآبي أحمد، ومنها إصلاحاته التي أعطت مواطنيه الأمل في حياة أفضل ومستقبل أكثر إشراقا، ورفع الطوارئ، والعفو عن آلاف السجناء السياسيين، ووقف الرقابة الإعلامية، وإعادة الشرعية للجماعات المحظورة قانونا، وإقالة القادة العسكريين والمدنيين الفاسدين، وتعزيز الديمقراطية بإجراء انتخابات حرة ونزيهة.. انظر إلى تلك الإصلاحات التي كانت ضمن حيثيات قرار اللجنة بمنح الجائزة لأبي أحمد، وانظر إلى الوضع في مصر ستجده عكس تلك البنود تماما، وهو ما تسبب في ضعف الدولة ومؤسساتها، وهو ما أغرى الإثيوبيين بالميل عليها ميلة واحدة.
تحتاج مصر وبشكل عاجل إلى مؤتمر وطني شامل يضم ممثليين عن كل أطيافها السياسية والدينية، ليؤكد عودة الوحدة إلى المصريين إذ لا يمكن لشعب منقسم أن يواجه دولة موحدة، وليصدر هذا المؤتمر الوطني صوتا واحدا قويا في مواجهة هذا الخطر، وغيره من الأخطار، مثل الإرهاب الأسود الذي لم يتوقف في سيناء والذي حصد يوم أمس فقط مزيدا من أرواح العسكريين والمدنيين، ومثل الديون الخارجية التي تجاوزت مئة مليار دولار وأصبحت قيدا في رقابنا ورقاب الأجيال القادمة، ومثل الفساد الذي ينهش في جسد الوطن واقتصاده الضعيف أصلا، وأخيرا لمواجهة الاستبداد السياسي الذي أذل البلاد والعباد، وأورثنا المهالك.
من الطبيعي أن يعتبر البعض هذا الكلام غير عملي بحكم وجود السيسي على رأس السلطة وعدم سماحه بعقد هكذا مؤتمر سيغضب كفلاءه، ولكن لا مناص من عقده تحت أي مظلة لإنقاذ الوطن، سواء كانت هذه المظلة هي القوات المسلحة، أو بيت العائلة الذي يضم الأزهر والكنيسة، او تجمعا للنقابات المهنية والعمالية أو تجمعا لكل العناصر السابقة باعتبارها جميعا ممثلة للشعب. وإذا كان عقد هذه المؤتمر الوطني الجامع مستحيلا داخل مصر، فعلى المعارضة التي تقيم خارج الوطن بكل مكوناتها المسارعة لعقد هذا المؤتمر والخروج بتوصيات عملية عاجلة وإيصال صوت مصر إلى الإثييوبيين والمجتمع الدولي والممولين والداعمين لبناء السد، وهذا أضعف الإيمان.