كانت آراء صموئيل هنتنغتون في كتابه الهام "صدام الحضارات" تؤكد أن الإسلام كدين لا يسمح بالديمقراطية، وبالتالي فإن موجات التحول الديمقراطي التي طالت مناطق عدة في العالم، لن تطال المجتمعات المسلمة. ورغم ما يُفترض من العقلانية في التفكير العلماني عموما، وفي تفكير هنتنغتون كأحد أبرز علماء السياسة في العصر الحديث، فإن المغالطات المرتبطة بالإسلام تشير إلى سطحية كبيرة في فهمه كدين، وفهم المجتمعات المسلمة من الزاوية الاجتماعية. كما أن تسويته للإسلام وهو دين؛ بالشيوعية وهي أيديولوجية، يشير إلى خلط أكبر بين مستويات التماثل والمقارنة، ولا تنعقد مقارنات بين مختلِفات، بل بين متشابهات. كما أن ما طرحه هنتنغتون لا يصمد أمام التاريخ القريب أو البعيد، كما أنه تهاوى تحت مطارق هتافات المجتمعات المسلمة ورغبتها في
الديمقراطية منذ بدء الربيع العربي عام 2011.
إن الفحص الأوليّ لتاريخ المنطقة المعاصر وبالتالي باقي المجتمعات المسلمة؛ يقطع بأن الشعوب المسلمة لم يتوقف نضالها نحو الديمقراطية، كما أنها تقبلت الصور الديمقراطية التي وردتها من الخارج دون عناء كبير. ففي مصر "بلد الأزهر" تشكّل البرلمان في القرن التاسع عشر، ومع تصاعد المطالبات النسوية في العالم عقب الحرب العالمية الأولى، نشأت حركة نسوية رشيدة تطالب بحقوق للمرأة، كالتعليم وحق الانتخاب، وكان ذلك في الربع الأول من القرن العشرين، وبحلول أوائل الثلاثينيات كانت هناك محامية مصرية وقائدة طائرة مصرية. والأمثلة في ذلك السياق تفوق الحصر، فعملية التحديث "الاجتماعي" تم استقبالها بهدوء ودون مقاومة يمكن وصفها بالشرسة، والتيارات المضادة ظلت في الإطار الطبيعي الذي يتواجد في أي مجتمع، والتمثيل بالنموذج المصري تحديدا لأنه (كما سبقت الإشارة) بلد الأزهر الشريف الذي يعتبر قِبلة المدارس السنيّة في العالم الإسلامي، فإذا كان الحال فيه على هذه الصورة، فبالضرورة ستكون باقي البقاع الإسلامية غير معاندة لعمليات التحديث الاجتماعي والسياسي، ولا يَرِد الصمود أمام الفكر الوافد إلا فيما يخالف القطعي من الموروث الثقافي والديني.
إذا كان الفكر السياسي والاجتماعي الغربي قام على فِصام بين الدين والمجتمع والسياسة والاقتصاد، فذلك مرتبط بوقائع تاريخية استدعت واستلزمت ذلك الفصام، وإلا لبقيت أوروبا في فقرها وحروبها حتى يومنا هذا، لكن المجتمعات المسلمة لم تشهد هذه الصراعات الدينية. ربما تم توظيف النص الديني من الحكام ومن زمرة من حملة الدين الفسدة، لكن المستقر في كتب التراث الديني لا يضع اعتبارا لمفاهيم الاستبداد أو ما يخدم بقاء الحاكم، ومدار ما استقر عليه فقه أهل السنة في مسألة تحريم الخروج على الحاكم؛ يرتبط بالخروج عليه بالسلاح وما يستتبعه من اقتتال سيؤدي إلى فساد يجاوز فساد استبداده، أما التظاهر ضده والدعوة لعزله بسلمية فلا يدخل تحت باب الخروج على الحاكم، وهو ما قرره شيخ الأزهر الحالي الإمام الطيب في بيانه التاريخي لدعم ثورات الشعوب العربية، في شباط/ فبراير 2011.
على صعيد الحاضر واللحظات الراهنة، فإننا نجد انطلاقة محمومة من الشعوب المسلمة نحو الديمقراطية بدأت عام 2011، ولا تزال تفاعلاتها مستمرة، ثم وجدنا تفاعلا جديدا من دول لم تخرج شعوبها في الموجة الأولى من الربيع العربي، ونجد من بين المتظاهرين أو الداعمين لهم علماء دين ووعّاظ يقفون خلف مطالب المتظاهرين، كما نجد منهم من يصطف مع المستبدين بحسن نية أو بخوف أو لأنهم لا يقلّون فسادا عن الحكام المستبدين. ونذكر أن السيد رفاعة الطهطاوي، وكان متحدثا باسم الأزهر الشريف، وقف متظاهرا في ميدان التحرير عام 2011، وكان الدكتور حسن الشافعي مستشار شيخ الأزهر صلبا في موقفه في 2011 وكذلك في انقلاب 2013، وغيرهما من العلماء، لكن الأهم من موقف العلماء هو موقف الشعوب. فهذه الشعوب بمجموعها تعبّر عن رضا المسلمين باختيارات الديمقراطية، وهي التي اصطفت لأيام في الاستحقاقات الانتخابية لتعبّر عن تأييدها للآلية الديمقراطية في كيفية الحكم، وهي التي وقفت أمام المدرعات وقصف الطيران والرصاص الحي في انقلاب 2016 بتركيا، ومن قبله انقلاب مصر. فكيف يمكن وصف هذه المجتمعات بنضالها المستمر أمام آلات قتل وحشية بأنها ضد الديمقراطية؟ وكيف يمكن وصف الدين الذي يعتنقه هؤلاء ويحترمونه بأنها ضد الديمقراطية؟
اعتبر هنتنغتون أن القيم الغربية هي وحدها التي تصلح لإقامة الديمقراطية، وهي دعوى سقطت أمام اختبارات التحول الديمقراطي أو حتى محاولاته في المنطقة. فالواقع أن النظم الاستعمارية كانت غربية، وقد استنزفت ثروات المنطقة على المستوى الاقتصادي، ثم قامت بتجريف ثقافي كذلك، كما أشاعت الاستبداد والقتل ضد مخالفيها، ولما انقشعت النظم الاستعمارية المحتلة، كانت قد قامت بتشويه ديموغرافيا المجتمعات وتمزيقها بحدود تراعي مصالح الاحتلال لا مصالح الشعوب، ثم سلّمت تركة الحكم لنظم عسكرية مستبدة أدخلت المنطقة في بئر سحيق من الجهل والتخلف، ثم دعمت هذه النظم بالمال والسلاح، ولما قامت ثورات الربيع العربي، تعاطت مع نتائج الديمقراطية بما لا يليق بالاختيار الشعبي، ثم لما قامت الانقلابات تعاطت مع نظم ما بعد الانقلاب بفتور في الظاهر وحماس من الناحية العملية، فعادت الشعوب لنقطة الصفر بفعل تلاقي إرادة النظم المستبدة مع النظم الغربية "الديمقراطية".
رغم ما لاقته الموجة الأولى للربيع العربي من إخفاق، لم تتوقف الشعوب عن المطالبة بالتغيير، سواء في الدول التي أخفقت كمصر، أو دول جديدة دخلت على خط الحراك، كالجزائر والسودان والعراق ولبنان، الأمر الذي يؤكد نية هذه الشعوب وعزمها على العيش بحرية وديمقراطية. وما يشهده العالم المسلم اليوم، برهان على أن الديمقراطية ليست حكرا على المجتمعات الغربية، وأن الإسلام ليس عقبة أمام حرية الشعوب، بل النظم المستبدة والنظم الغربية هم الذين يقفون حائط صد منيعا أمام الاختيار الشعبي، رغبة في رعاية مصالحهم المحفوظة بالاستبداد. ويبدو أن المجتمعات سئمت هذا الوضع وشرعت في تغييره، والرجاء من المولى أن يوفقهم في مسعاهم.