هل هناكَ "لباس إسلاميّ"؟ وهل للعلماءِ لباسٌ خاص بهم في الإسلام؟!
لبسَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو بكرٍ وعمرَ وعثمان وعليّ وغيرهم من الصحابة، وأبو جهلٍ وأميّة بن خلف وعقبةُ بن أبي معيط وغيرهم من المشركين الثياب نفسها، وكانوا يتزيّونَ بالأزياء ذاتها التي أفرزتها البيئة الاجتماعيّة وأعرافها. وكذلك هو الحال عند النّساء، فقد كانت أمّهات المؤمنين والصحابيّات يلبسنَ الثياب والأزياء ذاتها التي ترتديها المشركات، حتّى جاء فرض الحجاب الذي كانَ زيادة في ضوابط اللّباس، لا فرضا لزيّ معيّن أو لباسٍ مخصوص، أو خروجا عن لباس المجتمع آنذاك.
الإسلام لم يفرض زيّا معيّنا، سواء في ذلك الرجال والنساء؛ لا في الشّكل ولا في اللّون، وإنّما وضع ضوابط عامة وخطوطا عريضة للّباس وأهمّها:
أن يكون ساترا للعورة، وألّا يكون شفافا بحيث تبدو بشرة العورة تحته بتلقائيّة دون عناء التّدقيق في النّظر، وألا يحدّد أجزاء معيّنة من الجسم بطريقة تبرز مفاتنه وإن لم يكن رقيقا شفافا.
وبعد أن وضع الإسلام هذه الضّوابط؛ تركَ النّاس يطبّقونَها ضمن بيئاتهم الاجتماعيّة الخاصّة على الأزياء المتعارف عليها في عاداتهم وتقاليدهم، ولم يفرض صورة للّباس أو شكلا محدّدا أو "موديلا" ثابتا يمكن أن نطلق عليه اسم "اللباس الإسلاميّ".
فاللباس مسألةٌ تخضع لأعراف كلِّ بيئةٍ وعاداتِ كلّ مجتمع، واللّباس الإسلاميّ هو كلّ لباسٍ التزم الضّوابط التي وضعها الإسلام أيّا كانت صورته، ومهما كان "موديله" المتوافق مع بيئته وعرف المجتمع الذي ينتشر فيه.
وفرضُ صورةٍ معيّنةٍ من اللّباس على الرّجال أو النساء (سواء أكان الزيّ المفروض شكلا معيّنا أو لونا معيّنا، كما تفعل بعض الجماعات بحقّ أتباعها أو في مناطق سيطرتها)، بحيث تصادم هذه الأزياءُ المفروضة الزيّ العام للمجتمع وتتمايزُ عن أعرافه؛ ليسَ من الإسلام في شيءٍ وإن لبست هذه الدّعاوى ثوب الانتصار للإسلام، بل في ذلكَ عزلٌ للتديّنِ الحقيقيّ عن عموم المجتمع وواقع الحياة.
فاللّباس عُرف، واحترامُ أعراف النّاس وبيئاتهم الاجتماعيّة مطلوبٌ في الإسلام، وليسَ المطلوب شيئا أكثر من تطبيقِ الضّوابط والقواعد العامّة في اللّباس ضمن حدود الأزياء التي أفرزها المجتمع.
فهذا يوجب على الجماعات الإسلاميّة، والتيارات والمدارس الشرعيّة والدّعويّة وعموم المتديّنين؛ أن لا ينفصلوا عن مجتمعاتهم والمجتمعات التي يعيشونَ فيها، كي تكون لهم ولا يخسروها بتمايزهم عنها.
هل للعلماء والدّعاة زيّ خاصّ بهم في الإسلام؟!
ليسَ في الإسلامِ لباسٌ خاصٌ بالعلماء والدّعاة، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتمايز عن أصحابه في لباسٍ أو زيّ أو جلوس، وقد كان الرّجلُ يأتي المدينةَ باحثا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيدخل المسجد والنبيّ بين أصحابه فيسألُ: أيّكم محمّد؟!
وبطبيعة الحال لم يكن أهل البيت يتميّزون عن الصّحابةِ بلباسٍ خاصٍ بهم، وكذلك كانَ علماءُ الصّحابةِ يلبسونَ ما يلبسه النّاس في مجتمعهم.
فالأصلُ أن يلبسَ العلماءُ والدّعاة ما يلبسه النّاس، وليس هناك شيءٌ اسمه "لباسُ أهل العلم"، بل هو زيّ بروتوكولي غدا دلالة على طبقةٍ كهنوتيّةٍ يرفضُ الإسلامُ وجودها.
ولئن كانَ هذا اللّباس الذي يحاول البعض تصويره على أنّه لباس خاصّ بالعلماء عرفا مجتمعيّا عامّا في زمنٍ مضى، فهو ليسَ عرفا في زمننا هذا ولا في عموم بيئاتنا، بل إنّ فيه دلالة واضحة على تمايز العلماء والدعاة عن عموم النّاسِ تمايزا يُفهم منه الترفّع عليهم أو الرغبة في أن يشار إليهم بالبنان، وقد حذّر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وسمّاه لباس الشّهرة.
ويتداول المدافعون بقوّةٍ عن تمايز العلماء والدّعاة بلباس خاص بهم عن المجتمع؛ بأنَّ أوّل من أحدث لباسا خاصّا وزيّا متميّزا للعلماء هو أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى.
وفي هذا خللٌ في قراءة المشهد، فصحيحٌ أنَّ أبا يوسف هو أوّل من فرض لباسا خاصّا، لكنّه لم يفرضه على الفقهاء والدّعاة والعلماء عامّة في زمانه، لكنّ أبا يوسف كان يشغل منصب قاضي القضاة في الدّولة آنذاك، وقد فرض هذا اللباس على شريحة القضاة في زمانه، ومن الطبيعيّ أن يكون جلّ القضاة من الفقهاء آنذاك.
فاللباس الذي فرضه أبو يوسف بوصفه مسؤولا إداريّا عن مؤسّسة القضاء؛ هو لباس تخصصي في بيئة عمل تماما، كاللّباس الذي تفرضه الدّولة على الأطباء والمهندسين في بيئات العمل، وليس لباسا عامّا للدّعاة في المجتمع. ولم يدعُ أبو يوسف العلماء والدّعاة إلى التّمايز بلباسٍ خاصّ بهم، كما يحاول البعض تبرير تمايزه باللباس عن غيره.
وقد بيّن ابن القيّم رحمه الله تعالى، وهو يفصّل في لباس النّبي صلّى الله عليه وسلّم، أنّه كان يلبس ممّا تيسر له من اللّباس مما تعارف عليه قومه، فلا يردّ أيّ لباس يأتيه ويلبس الألوان المتنوّعة و"الموديلات" المختلفة؛ فلا يقتصر على نموذج واحد، ولا يتكلّف في لباسه ولا يتميّز به على الناس، ويلبس من أنواع القماش كلها إلّا الحرير، ويرتدي من أنواع الثياب ما كان ساترا جميلا.
فعلى الشّباب من دارسي العلوم الشرعيّة والعاملين في الدّعوة إلى الله تعالى أن يلبسوا كما يلبس النّاس، وألّا يصدّقوا أنَّ مكانتهم تكون في اعتمار العمائم، ولا يقنعوا أنفسهم بأنَّ الجبّة هي لباس أهل العلم، وعليهم ألّا يرتدوا الثّوبَ ويسدلوا على رؤوسهم الغترة في بيئاتٍ لا تعرفها ليشارَ إليهم بالبنانِ ويقال عنهم "مشايخ".
هل نحتاج إلى كل هذه المدونات الفقهية؟