الكتاب: الإنسان العاري.. الديكتاتورية الخفية الرقمية
الكاتبان: مارك دوغان، وكريستوف لابي
ترجمة: سعيد بنكراد
الناشر: المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع
الطبعة 2020/ الدار لبيضاء المغرب
عدد الصفحات: 192
تعاظمت المخاوف من الآثار التي خلفتها الثورة الرقمية، لاسيما ما يتعلق بالحياة الخاصة للإنسان والحميمية والهوية واللغة. وبدلا من التقليل من دور "الافتراضي" في حياة الناس، أصبح هذا العالم الافتراضي هو العالم الحقيقي، بينما أصبحت مساحات العالم الحقيقي محتلة ومهيمنة عليها من قبل مختلف الآليات التي أنتجتها الثورة الرقمية.
وفي الوقت الذي كان يظن فيه الناس أن الثورة الرقمية جاءت لتعظم سلة المكاسب بفضل تقريب المعلومة وسرعة الوصول إليها فضلا عن معالجتها وتداولها، وتقريب المساحات وتسريع وتيرة التواصل ونوعيته، انقلبت الأمور رأسا على عقب، فأصبحت هذه المساحة الإيجابية لا تستثمر إلا بنحو محدود، بالقياس إلى التهديد الذي أصبحت يشكله العالم الرقمي للحميمية والحياة الخاصة والحرية واستقلال الشخصية وحسها النقدي.
يرى الكتاب أن الإنسان أمام هيمنة مخرجات الثورة الرقمية سيصير عبدا أمام حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات
بل كان أخطر تداعي لهذه الثورة على الإنسان، هو فقدانه لهويته التي كانت تميزه، لجهة سيطرة منطق الاستهلاك وإدخاله في ماكينته الضخمة. كما احتلت مساحات استقلال المواطن في حقل السياسة، فلم يعد المواطن يملك مساحة للاختيار بين المشاريع السياسية المعروضة، بل أصبح جزءا من آلة ضخمة تقوم بوظائف الضبط والتحكم السياسي، فلم يعد بذلك سوى مستهلكا لمخرجات الدعاية وصناعة الرأي العام الذي تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا الكتاب الذي نقدمه للقراء، هو في الأصل كتاب ظهر في أواخر أيار (مايو) 2016 باللغة الفرنسية بباريس، وتم ترجمته هذه السنة، حتى يصير متاحا للقارئ العربي، وهو يشرح مخاطر الثورة الرقمية على الإنسان، وكيف حولته إلى إنسان عار أو إنسان عبد للدكتاتورية الحديثة التي أصبحت تجسدها كبريات الشركات التي تتحكم في الصناعة الإلكترونية في الولايات المتحدة الأمريكية.
سلطات الافتراضي التوسعية
يشير الكتاب إلى أن سلطات العالم الافتراضي امتدت واحتلت كل المساحات التي كان يملها الإنسان، وغطت على مجموع علاقاته وفضائه ومحيطه، حتى أصبحت هي الأمر الثابت في حياة الإنسان، حيث ضاقت فيها مساحة التواصل بين الأسرة، وحرمت الطفل الصغير من فرصة الاستمتاع بعطف الأم وكلماتها الموجهة، وأصبح الناس أمام الهاتف النقال، أشبه ما يكونون بعبيد إفلاطون الذين دخلوا في كهف مظلم تحت رحمة حراس يمنعونهم من الخروج ومن تصور عالم آخر غير عالم الكهف، فحرموا بذلك من الشمس والحقيقة ودفء الحياة. لقد تخلى الناس عن كل شيء في حياتهم، عن حميميتهم وحريتهم، وتخلوا عن حقائق واقع فعلي لكي يحتفوا بعوالم افتراضية أنستهم دفئ الإنسانية فيهم، فلا شيء أصبح يقيم عندهم خارج الافتراضية والمواقف المبرمحة في الصور والألعاب والمعلومات التي تسربها الأجهزة الصريحة والخفية.
يرى مؤلفا الكتاب أن عملية جميع المعطيات المتنوعة التي يوفرها المبحرون في الهاتف النقال عن أنفسهم، ومعالجتها ستتحكم في مصير هذا القرن، فلا تكتفي هذه الثورة الرقمية بالتحكم في نمط حياة الناس وتوجيهها إلى ضخ المزيد من المعلومات والمزيد من السرعة في الاتصال، بل إنها بالإضافة إلى ذلك، تقود إلى حالة من الامتثالية والعبودية الإرادية، ستكون نتيجتها هي القضاء على الحياة الخاصة، إذ سيتنازل الناس طوعا عن حريتهم، وسيصبح الإنسان عاريا أمام سطوة الشركات التي تتحكم في الصناعة الإلكترونية العالمية.
البيغ داتا.. ومعادلة التحكم والعبودية
يرى الكتاب أن الإنسان أمام هيمنة مخرجات الثورة الرقمية سيصير عبدا أمام حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات، الأمريكية في أغلبها، ممن يتخصص في تجميع مدونة المعطيات الكبرى، وذلك بقصد التحكم في المجتمعات، وإحداث تحول جذري في أفكارها وأنماط حياتها، وتحويلها بالجملة إلى مجرد كائنات مطواعة تفعل ما تؤمر به أو ما تقاد لفعله.
ويرى الكاتبان أن هذه المدونة المسماة باللغة الأنجليزية big Data تقوم بتجميع كل المعطيات التي يقدمها المبحرون في الهاتف النقال عن أنفسهم لفائدة هذه الشركات، سواء تعلق الأمر بالمعلومات الصحية أو التي تتعلق بالأذواق والاختيارات بل حتى الرغبات والميولات الأكثر حميمية، فتقوم هذه الشركات بتجميعها ومعالجتها، ويتم إيداعها في حواسيب لها قدرة فائقة على التخزين والإحصاء، وأن الغاية من ذلك، هي جعل العالم شفافا ومرئيا، والتخلص من سلطة المصادفة، حيث سيصير بالإمكان في ظرف وجيز أن تقوم هذه الحواسيب بمسح كامل وشامل حول الكائن البشري، فيصير الأفراد موضوعين تحت المراقبة بطريقة ذكية ولكنها غير محسوسة.
يستشهد الكتاب بقصة سفر يانيك بولوري رئيس مجموعة "هافاس" الفرنسية المتخصصة في التواصل في ميدان الإشهار إلى سان فرانسيسكو للقاء مسؤولين بشركة غوغل، إذ يحكي هذا المليادير أنه بمحرد ما حطت الطائرة به، بدأ في تشغيل هاتفه النقال، فتلقى رسالة نصية فورية تقترح عليه مطعما يابانيا قرب الفندق الذي يقيم به، يقدم وجبة السوشي سمون بتخفيض 15 في المائة عن السعر العادي، فأقلقته هذه الرسالة النصية، لأن السوشي سوون كانت بالفعل هي وجبته المفضلة، فأخبر مسؤولي غوغل بالحكاية، وسألهم عن من يكون وراء هذا الإشهار؟
المعطيات التي يقدمها المبحرون عن أنفسهم لم تعد ملكهم، بل يوجه جزء هام منها للاستخبارات الأمريكية التي بدورها تبيعها للأجهزة الاستخباراتية لبعض الدول، فيما يوجه الجزء الأكبر منها إلى الشركات الإشهارية
فكان الجواب: نحن من فعل ذلك، لقد حددنا موقعك منذ نزولك في المطار، لقد اطلعنا على مذكرتك وبريدك، وعرفنا أي فندق ستنزل فيه، وأنت تحب السوشي سومون، وهكذا اشترينا لك في الحال إشهارا يدعو إلى مطعم بجوار الحي الذي ستقطن فيه.
يعلق الكتاب على القصة، ويشير إلى أن الشركات الخاصة هي التي تستغل المعطيات التي يقدمها المبحرون عن أنفسهم، فشركة آبل أو ميركوسوفت أو فايسبوك يمتلكون 80 في المائة من المعلومات الشخصية الرقمية للإنسانية، وهذا يشكل منجم الذهب الأسود الجديد بحسب المؤلفين، إذ يصل في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها رقم المعاملات العالمية للبيغ داتا إلى 8.9 مليار دولار بنحو يصل إلى 40 في المائة كل سنة ويمكن أن يتجاوز 24 مليار سنة 2016.
يشير الكتاب إلى أنه في كل لحظة ترسل حوالي 300000 تغريدة، و15 مليون رسالة قصيرة، و204 مليون رسالة إلكترونية في كل أنحاء العالم، وترقن مليونان من الكلمات المفاتيح في المحرك غوغل، وتحصل البيغ داتا على المعطيات الشخصية من خلال الهواتف النقالة والهواتف الذكية، بحيث لا يمكن لأي قطاع أن يخرج عن هذه الشرنقة الرقمية. والأهم من ذلك كله، يضيف المؤلفان، أن المبحرين هم أنفسهم من يقدمون هذه المعطيات عن أنفسهم بطواعية. فما يشتريه الإنسان، أو ما يود شراءه، وما يستهلكه أو ما سيستهلكه أو ما ينتوي استهلاكه، وصحته وطريقته في قيادة السيارة وسلوكه العشقي والجنسي فضلا عن الآراء والاختيارات والأذواق، كل ذلك تتم دراسته، من أجل إعادة صياغة الإنسانية.
ويكشف الكتاب أن 13 خادوما ـ خوادم ـ التي تتمركز فيها كل سجلات أسماء الميادين في كل مواقع الأنترنت على مستوى العالم، تديرها إثنا عشرة مؤسسة فقط، منها تسع من جنسية أمريكية، بما يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية تجمع بين يديها دليل الويب، وتقوم بتجميع كتل هائلة من المعلومات حول مصدر الاتصال ووجهته على المستوى العالمي، بل إن منح أسماء الميادين هو من صلاحيات "إيكان" وهي بنية مركزها في كاليفورينا وتابع لوزارة التجارة الأمريكية. فالولايات المتحدة الأمريكية بهذا الاعتبار، هي التي تتحكم اليوم في البيغ داتا، عبر بيل غيتز ومارك زاكبيرغ وغيرهم ممن فوضتهم الدولة الأمريكية باستغلال وتخزين وتكرير المناجم الرقمية.
ويخلص الكتاب إلى أنه لم يحدث في تاريخ البشرية أن وضع عدد قليل من الأشخاص بين يديه الكم الكبير من السلطة والثروة، إذ آذن ذلك بميلاد أولغارشية فائقة في العالم الافتراضي. وبخلاف ثورة النفط، فإن أنانبيب الرقمية لا تنفذ، فـ 90 في المائة من المعطيات تم تجميعها في السنوات الأخيرة حسب الكتاب، ففي 15 سنة أصبحت غوغل (Alphabet)أكبر مقاولة في العالم، إذ وصلت قيمتها في البورصة سنة 2016 حوالي 544.7 مليار دولار أمريكي، أي أكبر مرتين من العملاق النفطي "إيسكون موبيل"، ووراء هذه المقاولة، هناك ثلاث "بيغ داتا" أخريات، هي: آبل، وميكرو سوفت وفايسبوك، بحيث تراجع قيمة العملاق النفطي "إيسكون موبيل" الذي كان يحتل المرتبة الأولى في بورصة الرأسمالية سنة 2012 إلى المرتبة السادسة، في حين آبل وألفابيت وحدهما يجلسان على فائض جبل من السيولة بـ 289 مليار دولار.
ويرى المؤلفان أن المعطيات التي يقدمها المبحرون عن أنفسهم لم تعد ملكهم، بل يوجه جزء هام منها للاستخبارات الأمريكية التي بدورها تبيعها للأجهزة الاستخباراتية لبعض الدول، فيما يوجه الجزء الأكبر منها إلى الشركات الإشهارية الخاصة التي تتبع الهاتف النقال للفرد وتمطره باللوحات الإشهارية التي تناسب ذوقه واختياره وما ينتوي القيام به، طعاما أو سفرا أو تسوقا أو ترفيها...
والأخطر من ذلك كله، أن "البيغ داتا" تتجه بالعالم إلى تقويض الدولة وسلطتها بل تقويض الديمقراطية أيضا، وإعدام كل القوانين التي تعطي قيمة للحرية والحياة الخاصة وللهوية ورهن العالم كله بسلطة حفنة من الشركات تتحكم في رقاب البشرية.
الهاتف النقال الجاسوس العميل في جيوبنا
يذهب الكتاب إلى أن الوكالة الوطنية للأمن "ناسا" تعرف عن المواطنين الألمان أكثر مما كان يعرفه جهاز "ستازي" في زمن المانيا الشرقية. ويعلل ذلك كون هذه الوكالة تطلع على كل حركة وكل تبادل الإلكتروني وعلى كل لحظة في حياة الألمان اليومية وحياة غيرهم، وذلك بسبب وجود جاسوس في الجيب اسمه الهاتف النقال، يسجل بدقة حركة التنقلات ويرصد هوية المتصلين، ويتعرف على الأصدقاء، ويطلع على ما يسجل في الأجندة، وما يكتب من رسائل قصيرة عبر الإيميلات، ويتصفح ألبوم الصور. فهو بهذا الاعتبار، ضابط حياة الناس، ويسمى مشغل هذا الجاسوس آبل أو غوغل الذين يتحكمان لوحدهما في 90 في المائة من أنظمة استغلال كل الهواتف الذكية فوق الأرض.
فقد تحول الانترنت إلى آلة ناسخة تستنخ كل الأداءات والتصرفات التي يقوم بها الفرد في حياته اليومية، بما في ذلك التصرفات المالية مثل التحويلات البنكية وحركة الدفع والاسترداد، حيث تقوم هذه الشركات بتجميع هذه البيانات وتنظيمها من أجل بيعها، إذ يتم التعامل مع الفرد باعتباره مستهلكا، وتقدم الشركات هذه البيانات للشركات الأخرى حتى تقرب إليه البضاعة القريبة من عاداته ورغابته وميولاته. ويشير الكتاب إلى أن غوغل وحده، الذي يعتبر حاليا رقم واحد في ميدان الإشهار في الانترنت بـ 90 في المائة من مدخولاته، يحدد بيانات مستعمليه حسب معايير سوسيوديمغرافية، وهي معايير مرتبطة بمراكز اهتمام الأفراد المستخرجة من تأريخ البحث، وأيضا من مضمون تبادلاتهم في خدمة البريد الإلكتروني داخله.
يذهب الكتاب إلى أن الوكالة الوطنية للأمن "ناسا" تعرف عن المواطنين الألمان أكثر مما كان يعرفه جهاز "ستازي" في زمن المانيا الشرقية.
فبدعوى مكافحة الرسائل غير المرغوب فيها (Spams) تقوم هذه المؤسسة بنسخ كل الإيمايلات وتحليل الكلمات المفاتيح فيها، لأن المبحر أعطاها الإذن بالقيام بذلك حين قبل الشروط العامة للاستعمال. ويعقد الكتاب مقارنة غريبة بين جهاز "ستازي" وبين غوغل، فجهاز "ستازي" كان يشغل 500 ألف موظف يسود الملفات دون رغبة من الضحايا، حيث عثر على 17 ألف كيلومتر من الملاحظات بعد أن حلت الشرطة السياسية. في حين يضع المبحرون بين يدي غوغل وغيرها المعلومات عن أنفسهم ويضعونها في الملف بشكل طوعي. لقد قبل مليار و400 ألف من رواد الفايسبوك أن يضعوا بين يدي مؤسسة "مارك زاكبيرغ" لائحة أصدقائهم ووضعية العشق عندهم وتاريخ ميلادهم وصورهم الشخصية أو اهتماماتهم، فقبلوا بذلك أن يتخلصوا من حميميتهم.
ويخلص الكتاب إلى أن الثورة الرقمية ستفضي إلى تغيير شامل للإنسان، إذ ستتغير حياته بالكامل، إذ سيفقد الناس الفضاء الذي كانوا يعشيون فيه كينونتهم المستقلة والتي تتغذى من عالم قيمهم وتنتشي بكل مظاهر العزة والكرامة والاستقلالية في القرار وفي العواطف، لجهة صياغة إنسان جديد مستهلك موجه عن بعد يتم التحكم في أذواقه واختياراته ونمط حياته، وفوق هذا وذاك، يوضع دائما تحت دائرة المراقبة الصارمة.