أشعل العديد من المعارك في سبيل التنوير، واحترام العقل والفكر، وتحرير المرأة، والشك في كثير من الروايات التاريخية والأدبية.
ورغم هجوم مشايخ وكتاب ومفكرين عليه إلا أن ما كتبه حول السيرة النبوية كان الأكثر تأثيرا بين جنبات ما جرى في مكة والمدينة في عهد النبوة وبواكير الإسلام.
أديب وناقد مصري عربي، متعصب ومدافع عن الفصحى، يحمل لقب "عميد الأدب العربي"، رغم أن عصره شهد قامات أدبية وفكرية كان مدادها متدفقا لا ينضب.
غير في شكل الرواية العربية، ولا تزال أفكاره ومواقفه تثير الجدل حتى اليوم رغم مرور 46 عاما على رحيله.
ولد، "قاهر الظلام " طه حسين، باسم طه حسين علي سلامة عام 1889 في محافظة المنيا في الصعيد الأوسط، أصيب وله من العمر أربعة أعوام بالرمد ونتيجة جهل أهله عرض على حلاق المنطقة بدل عرضه على طبيب مختص مما تسبب في ذهاب بصره إلى الأبد.
كان والده حسين موظفا صغيرا رقيق الحال في شركة السكر، أدخله كتاب القرية لتعلم العربية والحساب وتلاوة القرآن الكريم، فحفظ "كتاب الله" في مدة قصيرة أذهلت أستاذه ووالده الذي كان يصحبه أحيانا لحضور حلقات الذكر، والاستماع إلى عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي.
دخل الفتى طه حسين "الأزهر" عام 1902 للدراسة الدينية والاستزادة من العلوم، فحصل فيه على ما تيسر من الثقافة، ونال شهادته التي تخوله التخصص في الجامعة، لكنه ضاق ذرعا فيها، فكانت الأعوام الأربعة التي قضاها فيها، وهذا ما ذكره هو نفسه، وكأنها أربعون عاما بالنظر إلى رتابة الدراسة، وعقم المنهج، وعدم تطور الأساتذة والشيوخ وطرق وأساليب التدريس.
ولما فتحت "الجامعة المصرية" أبوابها عام 1908 كان طه حسين أول المنتسبين إليها، فدرس العلوم العصرية، والحضارة الإسلامية، والتاريخ والجغرافيا، وعددا من اللغات الشرقية كالحبشية والعبرية والسريانية، وظل يتردد خلال تلك الحقبة على حضور دروس "الأزهر" والمشاركة في ندواته اللغوية والدينية والإسلامية.
ودأب على هذا العمل حتى عام 1914، وهي السنة التي نال فيها شهادة الدكتوراة وكان موضوع الأطروحة بعنوان "ذكرى أبي العلاء" ولم تمر رسالته مرورا عابرا فقد أثارت ضجة في الأوساط الدينية، واتهمه أحد أعضاء البرلمان بالمروق والزندقة والخروج على مبادئ الدين الحنيف.
وفي العام نفسه، أوفدته "الجامعة المصرية" إلى "مونبلييه" بفرنسا، لمتابعة التخصص والاستزادة من فروع المعرفة والعلوم العصرية، فدرس في جامعتها الفرنسية وآدابها، وعلم النفس والتاريخ الحديث.
لدى عودته إلى مصر أثار معارك وخصومات متعددة، محورها الكبير بين تدريس الأزهر وتدريس الجامعات الغربية، ما حدا بالمسؤولين إلى اتخاذ قرار بحرمانه من المنحة الدراسية لكن تدخل السلطان حسين كامل حال دون تطبيق هذا القرار، فعاد إلى فرنسا من جديد لمتابعة التحصيل العلمي، فدرس علم الاجتماع والتاريخ اليوناني والروماني والتاريخ الحديث، وأعد خلالها أطروحة الدكتوراة الثانية وعنوانها: "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون".
وفي فترة قياسية انجز أيضا دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني، وتزامن ذلك مع زواجه من الفرنسية السويسرية سوزان بريسو التي ساعدته على الإطلاع أكثر فأكثر بالفرنسية واللاتينية، فتمكن من الثقافة الغربية إلى حد بعيد.
كان لهذه السيدة عظيم الأثر في حياته، فقامت بدور القارئ فقرأت عليه الكثير من المراجع، وأمدته بالكتب التي تمت كتابتها بطريقة "برايل" اللغة الخاصة بالمكفوفين حتى تساعده على القراءة بنفسه، كما كانت الزوجة والصديق الذي دفعه للتقدم دائما، ومما قاله فيها أنه "منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم"، وأنجب منها اثنان من الأبناء هما: أمينة ومؤنس.
نعود إلى صاحب سيرة "الأيام" فحين عاد طه حسين إلى مصر عام 1919 عين أستاذا للتاريخ اليوناني والروماني في "الجامعة المصرية"، وكانت جامعة أهلية، فلما ألحقت بالدولة عام 1925 عينته وزارة المعارف أستاذا فيها للأدب العربي، فعميدا لكلية الآداب في الجامعة نفسها، لكنه لم يستمر في العمادة سوى يوم واحد؛ إذ قدم استقالته من المنصب تحت تأثير الضغط المعنوي والأدبي الذي مارسه عليه "الوفديون"، خصوم "الأحرار الدستوريين" الذي كان منهم طه حسين.
لكنه ما لبث أن أعيد في عام 1930 إلى عمادة الآداب، لكن وبسبب منح الجامعة الدكتوراة الفخرية لعدد من الشخصيات السياسية المعروفة رفض طه حسين الموافقة على هذا العمل، فأصدر وزير المعارف مرسوما يقضي بنقله إلى الوزارة لكنه رفض تسلم منصبه الجديد مما اضطر الحكومة إحالته إلى التقاعد عام 1932.
انصرف طه حسين إلى العمل الصحفي فأشرف على تحرير "كوكب الشرق"، وما لبث أن استقال من عمله بسبب خلاف بينه وبين صاحب الصحيفة، فاشترى امتياز "جريدة الوادي" وراح يشرف على تحريرها، لكن ما لبث أيضا أن ترك مهنة الصحافة، ليعود من جديد عام 1934 إلى "الجامعة المصرية" بصفة أستاذ للأدب، ثم بصفة عميد لكلية الآداب.
لكنه لم يعمر هنا طويلا فقد دفعه خلافه مع الحكومة إلى الاستقالة من العمادة لينصرف إلى التدريس في الكلية نفسها، وبعد حين عين مديرا ل"جامعة الإسكندرية"، إضافة إلى عمله مستشار فني لوزارة المعارف، ومراقب للثقافة في الوزارة عينها.
كان عام 1950 بداية تقلده المنصب الوزاري حين عين وزيرا للمعارف، ومنح لقب الباشوية عام 1951، وركز عمله على "جامعة الإسكندرية"، وعمل رئيسا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضوا في العديد من المجامع الدولي، وعضوا في المجلس العالي للفنون والآداب.
عاد طه حسين عام 1959 إلى الجامعة بصفة أستاذ غير متفرغ، كما عاد إلى الصحافة فتسلم رئاسة تحرير صحيفة "الجمهورية".
اضطلع طه حسين في مسيرته الأدبية والفكرية والوظيفية بمسؤوليات مختلفة، وحاز مناصب وجوائز شتى، حتى رشحته الحكومة المصرية لنيل جائزة نوبل للأداب نحو أربع عشرة مرة من دون أن يفوز بها.
وفي عام 1964 منحته "جامعة الجزائر" الدكتوراة الفخرية، ومثلها فعلت "جامعة بالرمو" بصقلية الإيطالية، عام 1965. كما ظفر طه حسين بقلادة النيل، وفي عام 1968 منحته "جامعة مدريد" شهادة الدكتوراة الفخرية، وفي عام 1971 رأس مجلس اتحاد المجامع اللغوية في العالم العربي، وأقامت منظمة "اليونسكو" في اورغواي حفلا تكريميا أدبيا له قل نظيره.
لم يتوقف طه حسين عن الكتابة المثيرة للجدل والحوار حتى وافته المنية في 28 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973 عن عمر ناهز 84 عاما.
كان الكتاب الأكثر إثارة للجدل من بين مؤلفاته كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي عمل فيه بمبدأ ديكارت وخلص في استنتاجاته وتحليلاته أن الشعر الجاهلي "منحول"، وأنه كتب بعد الإسلام ونسب للشعراء الجاهليين.
تصدى له العديد من علماء الفلسفة واللغة ومنهم: مصطفى صادق الرافعي والخضر حسين ومحمد لطفي جمعة والشيخ محمد الخضري ومحمود محمد شاكر وغيرهم. كما رفع عدد من علماء الأزهر قضايا ضد طه حسين إلا أن المحكمة برأته لعدم ثبوت أن رأيه قصد به الإساءة المتعمدة للدين أو للقرآن الكريم، لكنه تحت الضغط على ما يبدو، عدل اسم كتابه إلى "في الأدب الجاهلي" وحذف منه المقاطع الأربعة التي اخذت عليه.
دعا طه حسين إلى نهضة أدبية، وعمل على الكتابة بأسلوب سهل واضح مع المحافظة على مفردات اللغة وقواعدها، وأثارت آراؤه الكثيرين، كما وجهت له العديد من الاتهامات، لكنه لم يتوقف أمام الاتهامات طويلا فاستمر في دعوته للتجديد والتحديث، وواصل نقده دون هوادة للطريقة التقليدية في تدريس الأدب العربي، وضعف مستوى التدريس في المدارس الحكومية، كما دعا إلى أهمية توضيح النصوص العربية الأدبية للطلاب، وإعداد المعلمين الذين يقومون بتدريس اللغة العربية والأدب مع اتباع المنهج التجديدي وليس التقليدي في التدريس.
أخذ الكثيرون على طه حسين دعوته إلى "الأَوْرَبة" و"التغريب" واختلفوا معه في طروحاته، فقام، على سبيل المثال، مصطفى صادق الرافعي بتأليف كتاب سماه "تحت راية القرآن" للرد على كتاب "في الشعر الجاهلي"، وألف كذلك "بين القديم والجديد" للرد على كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" وعلى كتاب سلامة موسى "اليوم والغد"، وصنف إبراهيم عوض مؤلفا جمع فيه أقوال النقاد والمؤرخين سماه "معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين".
كما دخل على خط النقد سيد قطب بتأليفه كتاب أسماه "نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين" وممن رد عليه أنور الجندي في كتابه "محاكمة فكر طه حسين".
كما رد عليه وائل حافظ خلف في كتابه الذي أسماه "مجمع البحرين في المحاكمة بين الرافعي وطه حسين "، وألمح في آخر بحثه إلى أن طه حسين قد رجع عن رأيه في الشعر الجاهلي بمقالة كتبها لاحقا.
كما عارضه خالد العصيمي في بحثه "مواقف طه حسين من التراث الإسلامي". وأفرد محمود مهدي الاستانبولي في كتابه "طه حسين في ميزان العلماء والأدباء" فصلا عن نقد طه حسين وكذلك صابر عبد الدايم في بحثه "بين الرافعي وطه حسين تحت راية القرآن".
ورغم أن البعض كان يرون أن الكاتب عباس محمود العقاد يستحق أيضا لقب " عميد الأدب العربي" إلا أن العقاد نفسه قال عن طه حسين بإنه: "رجل جريء العقل مفطور على المناجزة، والتحدي فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير".
وقال عنه الدكتور إبراهيم مدكور بأنه "اعتد تجربة الرأي وتحكيم العقل، استنكر التسليم المطلق، ودعا إلى البحث والتحري بل إلى الشك والمعارضة، وأدخل المنهج النقدي في ميادين لم يكن مسلما من قبل أن يطبق فيها، وأدخل في الكتابة والتعبير لونا عذبا من الأداء الفني حاكاه فيه كثير من الكتاب".
دراسته العليا ومنجزه وطروحاته الجرئية الملهمة للكثيرين وضعهت في موقع "عميد الأدب العربي" بغير منازع .
وتعاملت السينما المصرية مع روايات وكتب طه حسين بحذر شديد فلم تجرؤ السينما المصرية أن تقترب من أدب طه حسين إلا ثلاث مرات من خلال أفلام "ظهور الإسلام" عن كتاب "الوعد الحق" و "دعاء الكروان" و "الحب الضائع".
كما حولت سيرته الذاتية إلى مسلسل تلفزيوني حمل عنوان "الأيام" قام بدور البطولة فيه الفنان الراحل أحمد زكي، وفيلم سينمائي يتيم بطولة الفنان محمود ياسين بعنوان "قاهر الظلام ".
لا يزال طه حسين "قبلة" للكثيرين في طريقة الكتابة والتنوير وإثارة علامات السؤال، وتحريك المياه الراكدة، رغم أنه عاش في عصر مختلف بكل تفاصيله.
بطل حرب أكتوبر.. عزله السادات وسجنه مبارك وكرمته الثورة (بورتريه)