في ظل حالات التوحش الاجتماعية التي بدأت في الظهور في مصر، فذاك يقتل شابا لأنه حاول الدفاع عن فتاة من التحرش، والأخرى تقتل شابا لأجل خاتم، وغيرها من القصص التي باتت مألوفة لمسامعنا، وأصبح الشعب موضع اتهام دائم من حيث تدني الأخلاق والسلوكيات الجديدة التي ظهرت عليه.. هذه الحالات وغيرها دفعتني للتساؤل عن نظرية العقد الاجتماعي.
وأشد نظرياتها تعسفا كانت لدى هوبز وكتابه اللفياثان. فهوبز رأى أن البشر كانوا يعيشون في حالة من التوحش، وأنهم لإنهاء هذه الحالة أرادوا الانتقال لمرحلة مدنية عبر عقد اجتماعي بين الأفراد والحاكم صاحب السيادة، وهو ما يعد تنظيرا للملكيات المطلقة. لا يرى هوبز الثورة أو التمرد على هذا الحاكم وإن ظلم وطغى، فالبديل هو الرجوع إلى حالة التوحش. لكن بالنظر للحالة المصرية، هل أنهى الحاكم صاحب القوة حالة التوحش أم زادها اشتعالا؟ الإجابة ستكون الثانية.
أما الكواكبي فقد رأى في "كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" (الذي عايش حالة قريبة مما نعايشها اليوم من تدهور أوضاع المسلمين) أن الآفة التي أوصلت المسلمين لما هم عليه اليوم هي الاستبداد، وأن الاستبداد مفسد للأخلاق ومعطل عن التقدم وغيرها من المفاسد التي يجلبها، ومن قبله ابن خلدون في مقدمته؛ رأى أن الظلم مؤذن بخراب العمران.
قد يُرى أن ظاهرة الفهلوة عند المصريين سببها تدني الوضع الاقتصادي، الذي مرده الاستبداد وإساءة التصرف في الموارد والفساد، والذي ظهر بعد انقلاب يوليو 1952 ومحاولة إيجاد منافذ، فهم يحاولون التكسب بشتى الطرق لكي يتمكنوا من العيش. إنهم يكسرون القواعد أو حتى يتذاكون في المواقف لكي يتمكنوا من العيش.
وسمعت أحدهم يحلل فكاهة المصريين، على أنها محاولة منهم للتخلص من وطأة الاستبداد الذي فرضه تكوين الدولة حول نهر النيل، مما عظم من مركزية الدولة بالإضافة إلى وجود الصحراء على الجانبين مانعة فكرة الهرب من السلطة، فكان التكيف مع إيجاد المتنفس. وظهر الحس الفكاهي عند المصريين ومحاولتهم للسخرية من الحاكم في رسمة أو جرافيتي في جبل الدير البحري، قيل إنها لأحد العمال؛ حاول السخرية من علاقة الملكة حتشبسوت مع كبير مهندسيها سننموت.
وبما أن المصريين لم يعتبروا الهجرة حلا، فإنهم قد قاموا بالعديد من الثورات في الحقب الفرعونية المختلفة، وكما يرى صالح فإن المصريين لهم تاريخ في حرية التعبير، فالمصريون أو بمعنى أدق من سكن وادي النيل؛ لم يكن من طبعه الهجرة وكان يميل إلى الاستقرار.
لكن ماذا حدث للمصريين؟
هل هو الاستبداد كما يرى الكواكبي، أم أنه الحراك الاجتماعي الذي جعل قيم المجتمع سائلة ولا ثابت فيها، كما يرى أمين(1)؟ ما الذي جعل أحد أبناء نظام مبارك (أي مصطفى الفقي) يستغرب الهجرة على المصريين، والتي لم تكن من طباعهم في منتصف العقد الأخير من الألفية السابقة، مرجعا السبب إلى ما بعد النكسة وتراجع الخطاب القومي وحصار المواهب وحرق البدائل(2).
الهجرة أصبحت أسهل ومال لها الناس، وبعد أن كان الناس يعودون من الغربة ليستقروا في مصر بعد الثورة، إلا أن هؤلاء أنفسهم سافروا مرة أخرى بعد الانقلاب. وكثير من الشباب يسافرون أو يحاولون، فهل فقد المصريون انتماءهم لوطنهم؟ ربما، فكما يرى ويمر، فإن الإحساس بالانتماء يتناسب طرديا مع التمثيل السياسي، وبالتالي بما أن التمثيل السياسي قد غاب فإن الإحساس بالانتماء للوطن غاب هو الآخر.
أم أن الليبرالية وغياب قيمها من التسامح والتعددية هي ما أوصلنا إلى ذلك؟ الغريب في الأمر أن بعض من يطرحون هكذا إجابات، تراهم لا يتسامحون مع غيرهم من الإسلاميين. فكيف بهكذا حل أن يأتي؟!
أم أن السبب هو بعد المصريين عن الدين كما يطرحه الإسلاميون الكلاسيكيون، وأن الحل هو بالعودة إلى أنفسنا وحثها للرجوع للدين؟ وسنختلف على تعريف الدين هنا، وسنتشتت لأن الدين في مصر موظف من قبل النظام، ما يُثقل من وطأة الاستبداد كما يرى الكواكبي. هل المشكلة هي ذاتية في داخل كل مصري، أم أن المشكلة، كما يرى بعض الإسلاميين الذين يدعون إخوانهم لمراجعة تصوراتهم كالزعاترة(3)، تكمن في عوامل موضوعية كالتقصير في الأخذ بالأسباب الموضوعية للنهوض؟
هل المشكلة في الشعب أم النخبة؟ هل سنسلك مسلك الرومانسيين في تعظيم الشعب وإلقاء اللوم على النخبة، أم نسلك مسلك المثقفين ونكرر النظرات الاستشراقية دون أن نأتي بجديد؟
السؤال المطروح: ماذا حدث وماذا يحدث للمصريين؟
أميل لرأي أنه بغياب القوى المجتمعية الدعوية، والتي كانت تمثل وازعا للخير العام، كما أن المجال العلم كان متسما بالتدين، فكان حضور الإسلاميين ذا تأثير في المجتمع، من إخوان في نهاية السادات وحقبة مبارك مع ظهور منافسة لهم من قبل السلفيين خصوصا مع مطلع الألفية؟ وبالطبع كان جزء منها طبيعي لتجذر الإسلام في الشعب، أو كما يذهب بعض المحللون بأنه كان تواطؤا ضمنيا بين النظام والإسلاميين، وليس هذا موضوعنا.
لكن المهم انحسار موجة التدين بسبب الاستبداد واعتبار الأنظمة الإسلاميين خطرا عليهم، وهو ما ظهر في الموجات المضادة للثورة عقب الربيع العربي، وهو ما وصفه الزعاترة(4) بأنهم يريدون محاربة الإسلاميين فيجففون حواضنهم بمهاجمة التدين والتي قد تطال الإسلام نفسه. ولعل ما قاله ابن خلدون على العرب ينطبق هنا؛ أي بنبذ الدين ينسى العرب السياسة ويعودون للتوحش.
كما أرى أنه في ظل قيام الدولة المصرية الحديثة، وكعادة الدول القومية فإنها تسعى إلى ترسيخ قوة الدولة وإضعاف القوى التقليدية المجتمعية، والتي كانت متمثلة في العلماء والقبيلة وغيرهما، فتعمل على إخضاع العلماء للدولة فتلغي الوقف وكل وسيلة للاستقلال المادي والمؤسسي، وتعمل على تفكيك القبيلة وإحلال المواطنة والانتماء للدولة بدلا من القبيلة.
المشكلة في كل هذا أن وازع الفرد للالتزام بالصواب والعمل للخير العام وتجنب الخطأ، بعد أن كان الدين واستشعار أوامره ونواهيه، والمجتمع وأعرافه وقيمه، بات الآن الخوف من الدولة وتنفيذها للقوانين. وفي المجتمعات الصناعية قد تُضاف المصلحة العامة المتمثلة في الإنتاج والتكامل لتحقيق الحاجات المادية، فالرجل المثالي في نظر الدولة هو المنفذ لقوانينها على حساب كل القيم الدينية الأخلاقية والأعراف المجتمعية. فيُحكى أن محمد علي باشا كرم جنديا في الجيش لأنه قتل والده الذي كان يشارك في إحدى الاحتجاجات.. الدولة صارت إلها فانيا كما يقول هوبز.
فوازع فعل الخير بات الدولة أكثر منه ضمير الفرد، فلنفترض إذا غياب قوة الدولة وعدم قدرتها على إنفاذ القوانين في بعض المستويات، النتيجة هي عدم تنفيذه واستغلال عدم وصول الدولة له، وربما هذا هو سر ما يسميه المصريون الفهلوة، استغلالا لتهاون الدولة. ومن أمثلة هذا: التهرب من الضرائب الذي يعتبر الأصل لا الاستثناء في مصر لكثرة الثغرات والتراخي والفساد في جمع الضرائب، وهو سبب حالات التحرش، وهو سبب حالات اغتصاب اللاجئين وخصوصا الذين لا يمتلكون أوراقا رسمية فبالتالي لن يستطيعوا مقاضاة الجاني، وهو سبب التهجم على بعض الإخوان وأحيانا بعض ممتلكاتهم، فالحقد لا مجتمع يرشده والدولة لن تعاقب.
لا أقول بالطبع إن الدولة محت كل البنى التقليدية أو أنها طمست الضمير الفردي بالكلية بل الأكيد أنها أضعفته، والصحوة الإسلامية في السبعينيات دليل على عدم جدوى التحديث، وأنه ومع أفول نجم القومية بعد النكسة والفراغ الذي أحدثه هذا الأفول، سرعان ما رجع الناس إلى الإسلام وبدأت مرحلة ما تُعرف بالإحياء الإسلامي أو الصحوة. فداود أوغلو(5) يرى أن مثل هذه الصحوة هي دليل على فشل عمليات التحديث التي استهدفت البنى التقليدية ورسخت من قوة الدولة. ولأن عمليات التحديث كانت مستجلبة وتحاكي النموذج الغربي، فإنها قد لعبت على الجانب المعرفي والإبستمولوجي ولم تراعِ النظرة الكلية للوجود الأكثر عمقا للشعوب، أو بمعنى أبسط، لم تراع خصوصية الدين الإسلامي.
--------
الهوامش:
(1) أمين، جلال. (1998). ماذا حدث للمصريين؟: تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945-1995. دار الشروق.
(2) الفقي، مصطفى. (2007). الدولة المصرية والرؤية العصرية: من فقه المراجعة إلى فكر المستقبل. دار الشروق.
(3) الزعاترة، ياسر. (2019). لماذا يفشل الإسلاميون سياسيا؟: عن الحملة الجديدة على الإسلام السياسي والتدين. دار جسور للترجمة والنشر.
(4) المصدر السابق.
(5) داود أوغلو، أحمد. (2019). النموذج البديل: أثر تباين الرؤى المعرفية الإسلامية والغربية في النظرية السياسية. ترجمة طلعت فاروق. الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
"حاميها حراميها".. و"الحزام الأخضر"
المقاول الذي حطم عرش الديكتاتور المصري