يلوم الرئيس المصري الإخوان المسلمين وانتفاضة 2011 على كل المصائب التي حلت بمصر منذ ذلك الوقت.
لا يوجد أدنى شك في أن "الدكتاتور المفضل" لدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الرئيس المصري عبد التفاح السيسي، هو زعيم الطغمة العسكرية التي أطاحت بالرئيس المنتخب ديمقراطياً، كما لا يوجد شك في أن السيسي لم يتوقف عن الكذب وتشويه الحقائق وأنه يشرف بنفسه على بث الدعايات المغرضة التي تستهدف تضليل الرأي العام وتشويه صورة انتفاضة يناير 2011 ورموزها وشخصياتها البارزة.
ومع ذلك، لم يفتأ أنصاره، الذين تشحذ هممهم وتحفزهم مجموعة من الزعماء المتواطئين حول العالم، يقفون من خلفه زاعمين أنه الضمانة الوحيدة لوجود رئيس "مدني" – الصيغة المألوفة التي تستخدم في مواجهة الخصم المعتاد، ألا وهو البعبع الإسلامي المتوهم، الذي يعشعش في أدمغتهم.
تناشز معرفي
يمكن للأجيال القادمة أن تتعلم درساً من حالة التناشز المعرفي هذه.
فعلى الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين لم تعد موجودة فعلياً في المشهد السياسي – بعد أن تعرض أعضاؤها للقتل أو السجن أو النفي – تستمر الجماعة في احتلال الصدارة في الحكاية الباطلة التي تُروى حول أسباب الوضع الحالي من انهيار اقتصادي فاقم من الظروف المالية للغالبية العظمى من المصريين.
وبحسب البيانات الرسمية التي نشرتها وكالة الإحصاء المركزية في مصر في شهر يوليو / تموز، فإن ثلاثة وثلاثين بالمائة من المصريين يعيشون دون خط الفقر الذي يقدر بما يقرب من 1.45 دولاراً في اليوم، ويمثل ذلك زيادة عما كان عليه الحال في عام 2015 حيث كانت النسبة ثمانية وعشرين بالمائة بينما كانت في عام 2000 سبع عشرة بالمائة. وعلى الرغم من أن الأسباب الحقيقية تكمن في عاصفة من الفساد وسوء التصرف بالمال العام وإجراءات التقشف المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي وسوء الإدارة في الوزارات المهمة، إلا أن السيسي وأزلامه في الحكومة والبرلمان ووسائل الإعلام مستمرون في توجيه أصابع الاتهام لانتفاضة عام 2011 ولجماعة الإخوان المسلمين على اعتبار أنهما أصل الشرور جميعاً.
ولا أدل على ذلك من تصريحات السيسي الأخيرة التي أدلى بها في ندوة ثقافية ذات علاقة بالجيش، حيث يتبين من هذه التصريحات كيف يتلاعب النظام بمشاعر الجمهور للفت الانتباه بعيداً عن الإخفاقات المتكررة التي يمنى بها. فبالإشارة إلى الطريق المسدود الذي وصلته المحادثات مع إثيوبيا بهدف التوصل إلى اتفاق شامل حول سد النهضة الإثيوبي العظيم، قال السيسي إن مصر "كشفت ظهرها وعرت كتفها في 2011".
لو نحينا جانباً ما تضمنه هذا التصريح من تحيز جنسي بلا طعم، فقد ضاعف السيسي من رهانه وبالغ في الافتراء حينما أضاف إنه لولا انتفاضة عام 2011 لتمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاق يقبل به الجانبان، ثم ذهب إلى أبعد من ذلك حينما حذر من أن تكرار مثل تلك الأحداث سوف يكون بمثابة "الافتراس" للبلد.
عاصفة بردية سياسية
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يحمل فيها السيسي المسؤولية عن أزمة سد النهضة لانتفاضة عام 2011.
في خضم العاصفة البردية السياسية التي أثارتها مزاعم الفساد التي صدرت عن المقاول العسكري السابق محمد علي، نظم السيسي على عجل مؤتمراً وطنياً للشباب. وبينما كانت قواته تعتقل بشكل تعسفي المئات من الشباب، زعم السيسي أن مصر ما لبثت تدفع منذ عام 2011 ثمن غلطة واحدة، وهو "الثمن الذي ندفعه وسنستمر في دفعه"، مضيفاً أن "السدود ما كانت لتشيد فوق نهر النيل لولا ما حدث في عام 2011."
وبينما استمر تفاقم الأزمة، نشرت صحيفة الأهرام المملوكة للدولة مقابلة مع مجدي عامر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون بلدان حوض النيل، خلص فيها إلى أن جماعة الإخوان المسلمين تتحمل المسؤولية عن انهيار المحادثات مع إثيوبيا، ولام تحديداً الرئيس السابق محمد مرسي لسوء إدارته ملف القضية، محملاً بذلك الأزمة لرجل توفي وبالكاد أكمل عاماً واحداً في منصب الرئاسة، في حين أن الإدارة الحالية، والتي تسببت عملياً في وفاته، فشلت المرة تلو الأخرى على مدى الأعوام الستة الماضية.
إلا أن أخونة أزمة سد النهضة بدأت قبل ذلك بأسابيع، حيث تصدر لنشر نفس هذه الافتراءات دونما خجل أو وجل اثنان من أزلام الدعاية السيساوية، أما أولهما فهو أحمد موسى الذي يقدم برنامجاً في قناة صدى البلد، والذي أكد أن انتفاضة عام 2011 هي السبب الحقيقي، وزاد على ذلك اتهام مرسي بأنه كان جاسوساً زاعماً بأن ذلك ثبت من خلال زيارته إلى إثيوبيا في عام 2012.
وأما الآخر فهو عمرو أديب الذي يطل من خلال شاشة الإم بي سي، والذي بدلاً من أن ينشغل بتحليل تفاصيل النزاع الدبلوماسي بين البلدين، خصص جل برنامجه المسائي للتساؤل حول الأسباب التي دفعت مرسي لمناقشة مشروع سد النهضة في اجتماع تنفيذي عالي المستوى، الأمر الذي يثبت أن الأزمة بدأت في عهده هو.
تعزيز التعاون
إلا أن تتبع الأحداث زمنياً منذ ولادة مشروع سد النهضة والبدء في إنشائه تثبت أن العكس من ذلك هو الصحيح.
ففي شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2010، قام جيمز كيلستون بتسليم تصميم للسد، وفي مارس/آذار من عام 2011، رسا عطاء بقيمة 4.8 مليار دولار، دون تنافس أو مناقصة، على مجموعة إنشاءات صناعية إيطالية اسمها ساليني كونستروتوري، وقام رئيس الوزراء الإثيوبي السابق ميليس زيناوي بوضع الحجر الأساس للسد في الشهر التالي.
والنقطة هنا هي أن الخلاف على السد بدأ قبل انتفاضة يناير بوقت طويل، ولم يتم شيء بشأنه ما بين يناير/كانون الثاني 2011 ويونيو/حزيران 2012، عندما كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو الذي يحكم البلاد.
ثم، وخلال شهر واحد من استلامه منصبه كرئيس للجمهورية – والذي لم يتجاوز فيه العام الواحد – ابتداء من يونيو/حزيران 2012، بادر مرسي بزيارة إثيوبيا كبادرة حسن نية لتعزيز التعاون وتوجيه التفاوض حول كيفية إدارة المرحلة التي بات واقعاً فيها لا مفر منه أن إثيوبيا ماضية قدماً بإنشاء السد.
ومن يوليو/ تموز 2013 وحتى هذا اليوم، انشغلت حكومة السيسي بإنشاء عاصمة جديدة وبناء أضخم كاتدرائية وأضخم مسجد في الشرق الأوسط وإقامة كثير من الجسور، دون إبداء أي اهتمام فيما يبدو بأزمة المياه التي تلوح في الأفق.
وقبل عام واحد فقط، خلال أسبوع القاهرة للمياه، نُقل عن السيسي القول بأنه لا ينبغي تسييس قضايا المياه وأن "مصر ما فتئت تدعم وستستمر في دعم جهود البلدان الشقيقة لتحصيل المنافع المشتركة من نهر النيل دون إلحاق أضرار بالشعب المصري".
ويبدو أن إدارته أخذت على حين غرة بعد عام من ذلك حينما أعلنت وزارة مصادر المياه بأن نصيب مصر السنوي من مياه النيل انخفض في عام 2019 بما يقرب من خمسة مليارات متر مكعب بسبب تضاؤل مياه الأمطار نتيجة للتغيرات المناخية.
بل إن الخلاف الحالي مع إثيوبيا لا يتعلق بوجود السد وإنما بالإطار الزمني الذي سيتم من خلاله ملؤه. لقد أخفقت مصر في عهد السيسي في التفاوض على إطار زمني أطول يبلغ مداه سبعة أعوام مقابل فترة الأربعة أعوام التي تقترحها إثيوبيا، مما سيكون له كبير الأثر على موارد المياه في مصر.
إهانة مقصودة
تلك هي الحقائق. ومن الحقائق أيضاً أن حكاية السيسي الباطلة التي ما فتئ يبثها حول انتفاضة يناير وحول دور جماعة الإخوان المسلمين ترتكز على إستراتيجية أوسع تراوح بين مصادرة حق الناس في التعبير عن إرادتهم من جهة ونزع الشرعية عنها كمصدر للاستقرار الاقتصادي وتحميلها المسؤولية عن الفوضى الاجتماعية والإرهاب.
عندما كان الظرف السياسي مواتياً، كان السيسي يستغل المشاعر القومية، محفزاً الشارع للتحرك ضد خصومه السياسيين، كما حدث عندما خطط لمجزرة رابعة في عام 2013، بل سبق ذلك بإعطاء الانطباع أن انقلاب الثالث من يوليو/تموز كان تعبيراً عن الإرادة الشعبية التي تجلت في عام 2011.
ولكن بحلول عام 2017، تغيرت اللهجة، وبدأ الهجوم على انتفاضة يناير/كانون الثاني باعتبارها مؤامرة نجمت عن وعي زائف بشأن القضايا التي كانت تواجه البلاد آنذاك. ففي خطاب ألقاه في شهر إبريل / نيسان من ذلك العام، حذر السيسي من أن المزيد من الاحتجاجات أو التظاهرات ستؤدي إلى تدمير البلد بشكل تام.
وبحلول عام 2018، لم يعد السيسي يعبأ بالاحتفاء بذكرى ثورة يناير، منتهزاً كل فرصة لشن هجوم عليها والإشراف بنفسه على محاولات امتهان رموزها وشخصياتها البارزة.
تشهد موجة الاعتقالات الأخيرة، والتي شملت شخصيات مثل علاء عبدالفتاح وإسراء عبدالفتاح، على عالم الأكاذيب والافتراءات التي يعيش فيها النظام. فهو من جهة يغازل الشباب باعتبارهم الجهة الضامنة لمستقبل أكثر إشراقاً، ومن جهة أخرى يُخضع أبرزهم وأكثرهم نشاطاً للتعذيب والحبس غير الشرعي ليكونوا عبرة لمن خلفهم.
ولكن، لا يمكن للمرء أن يخدع جميع الناس طوال الوقت.
ترجمة خاصة لـ"عربي21" عن موقع ميدل إيست البريطاني