في خطاب دون مستوى الأحداث المتصاعدة في
العراق، والمتمثّلة بالمظاهرات الصاخبة في أكثر من عشر محافظات، أشار الرئيس العراقيّ برهم صالح يوم الخميس الماضي إلى "التشخيصاتِ المهمّة التي جاءت بخطابِ المرجعيةِ الجمعةَ الماضية، وإلى تقديرِ الخطابِ لحراجةِ اللحظةِ التاريخيةِ الراهنة لبلدِنا وشعبِنا"!
ومساء أمس الخميس خرجت مظاهرات موازية لمظاهرات ساحة التحرير ببغداد، نظّمها أفراد الحشد الشعبيّ، وهم فصائل عسكريّة شكّلت بموجب فتوى المرجع الشيعيّ علي السيستاني بالجهاد الكفائي، بعد سيطرة "داعش" على الموصل منتصف العام 2014!
وعلى الفور، رفض مكتب السيستاني الزجّ باسمه في التظاهرات!
هذا التناقض في غالبيّة الفعاليات والخطاب السياسيّ يدفعنا لسؤال كبير يتعلّق بشكل الدولة العراقيّة، وهل هي دولة دينيّة، أم ديمقراطيّة؟
وسأحاول ذكر بعض النصوص الدستوريّة الحاكمة والحاسمة للجدل حول نوع الحكم، وذلك عملاً بالحياديّة، والموضوعيّة، ومنها المادّة (1) من الدستور التي تؤكّد على أنّ "جمهوريّة العراق دولةٌ اتحاديةٌ مستقلةٌ، نظام الحكم فيها جمهوريّ نيابيّ (برلمانيّ) ديمقراطيّ".
وأشارت المادّة (2، ب)، إلى أنّه "لا يجوز سنّ قانونٍ يتعارض مع مبادئ
الديمقراطية".
أدرك جيداً (وكلّ منْ يمتلك أدنى معرفة في فقه السياسة من جميع المدارس) أنّ الديمقراطيّة هي حكم الشعب، وما يوافق عليه الشعب هو القرار القاطع، سواء عبر صناديق الاقتراع، أو عبر ممثّليهم في المجالس المركزيّة والمحلّيّة. ولا دخل للدين في هذا النوع من الحكم سوى ما يتعلّق برغبة الناخب (الشعب) في اختيار المتديّن، أو غير المتديّن من المرشحين لمجالس الحكم.
ومقابل الديمقراطيّة، تُعرَّف الدولة الدينيّة (لأيّ دين) بأنّها الدولة المنضبطة بتعاليم هذا الدين، أو ذاك، وأنّ الدين مصدر السلطات.
ويتّضح جلياً البون الشاسع وعدم التمازج، بل والتباعد الجذريّ بين الدولتين الديمقراطيّة والدينيّة في النظرة لمجمل القضايا، وبالتالي الاختلاف في آليّات التعاطي مع المستجدات القائمة.
تحاول الغالبيّة العظمى من السياسيّين العراقيّين ربط قراراتهم بتوجيهات "المرجعيات الدينيّة"، وبالذات الشيعيّة منها، وهذا لا يتفق مع شكل الحكم الديمقراطيّ بحسب الدستور، وكأنّ العراق أمام حالة تمازج بين الدولتين الديمقراطيّة والدينيّة، وهذا لا يمكن أن يكون؛ وذلك لوجود خلاف جوهريّ في أصل القضيّة: منْ هو المُشرّع، هل هو الله سبحانه وتعالى، أم الشعب (الأمّة)؟
وكذلك في جوانب أخرى لا يمكن حسمها بمقال واحد هنا، ولكن، وبكلمة بسيطة، يمكن الجزم بأنّه لا يمكن المزج بين الدولتين بهذه السهولة!
وبناءً على ما تقدم، ينبغي أن نفهم حقيقة الدولة العراقية: هل هي ديمقراطيّة، أم دينيّة؟ وإن كانت ديمقراطيّة، لماذا تتلقى الحكومات التعليمات من المرجعيات الدينيّة؟ وهل هذا يتفق مع أبسط مفاهيم الديمقراطيّة؟
من المؤكّد للعراقيّين (بموجب الوقائع والتصريحات) أنّ إدارة الدولة "رماديّة" وغير واضحة المعالم، وهي دولة ليست ديمقراطيّة، وفي ذات الوقت ليست دينيّة، بدليل أنّ ما يجري من قتل وتخريب وظلم لا يتفق لا مع أصول وأسس وقيّم الديمقراطيّة، ولا مع أصول وأسس وقيّم كافّة الأديان السماوية!
أكاد أجزم أنّ الدولة في العراق هي دولة دينيّة، ومذهبيّة طائفيّة، ويمكننا نقل عشرات التصريحات لغالبية السياسيّين المؤكّدة (حقيقة، أو لمصلحة ما) على ضرورة تطبيق تعليمات المرجعيّة الدينيّة بحذافيرها، وصارت خطب الجمعة منبراً لنقل التعليمات للسياسيّين الذين يتسابقون في مضمار تنفيذها!
وبعيداً عن شكل الدولة في العراق، سواء أكانت دينيّة أم ديمقراطيّة، ينبغي أن يتمّ حسم ملفّات مُرعبة تتعلّق بأرواح المواطنين وحرّياتهم وممتلكاتهم؛ لأنّ الأديان والديمقراطيّة والمنطق والضمير والإنسانيّة كلها لا تدعو لقتل الأبرياء، وحجر حرّياتهم، وتكميم أفواههم، هذا فضلاً عن ارتكاب جرائم السرقات والنهب المنظّم، وضياع الدولة، وغيرها من صور هدم الوطن والإنسان من قبل أشخاص وأحزاب وكيانات في غالبها العامّ تقول إنّها تحترم المرجعيّات وتنفّذ تعليماتها!
وبعيداً عن هذا الجدل الكبير حول شكل الدولة العراقيّة، أظنّ أنّ الكلمة الفصل اليوم بيد المتظاهرين العراقيّين في ساحة التحرير وغيرها من الميادين؛ لأنّهم اليوم بحاجة لدولة مدنية، لا مكان فيها لسلطة غير سلطة القانون.