1- القانون الانتخابي معيق للحكم
قانون الانتخابات التونسي الذي تم سنه بعد 2011 هو قانون مُعَقدٌ إلى حد كبير، حيث يمنع حصول أي حزب على أغلبية في البرلمان، ويسمح فيه نظام "أفضل البقايا" لأحزاب وجماعات صغيرة وأفراد من مستقلين بالفوز بمقاعد في البرلمان، وهو ما أغرى الكثيرين بخوض الانتخابات وتشكيل أحزاب، حتى تجاوز عدد الأحزاب في تونس المئتي حزب.
هذا القانون حوّل السياسة في تونس من استبداد الأقلية إلى "استبداد الأغلبية"، أي من استبداد أفراد ممسكين بالسلطة قبل 2011 إلى "استبداد" عموم الناخبين؛ حين يُصَعّدون إلى البرلمان من لا علاقة لهم لا بسياسة ولا بديمقراطية ولا بأشواق ثورة ولا بمشاريع تنمية، وإنما فقط أغرتهم "المغانم" الانتخابية بقانون انتخابي لم يكن لصالح الديمقراطية ولا لصالح الاستقرار، بل كان سببا في تشظي المشهد السياسي وفي تنشيط الفوضى تحت عنوان الديمقراطية وشرعية الصندوق.
إن أغلب الصاعدين للبرلمان التونسي المكون من 2017 نائبا إنما صعدوا بفضل نظام "أفضل البقايا"، أي أنهم لا يمتلكون "شرعية" شعبية، إنما هي "شرعية" قانون "أفضل البقايا" أو ما يُعرف بـ"الفواضل".
وبدل أن يفهم هؤلاء بأن القانون الانتخابي التونسي يريد تدريب التونسيين على الديمقراطية وعلى الحوار الهادئ واحترام المختلفين، فإن أغلبهم استعمل صعوده للبرلمان لممارسة الخصومة السياسية، وللمبالغة في الصخب والتهريج تحت قبة البرلمان.
2- التفاوض وكسر حاجز "العداوة"
يُكلف رئيس الجمهورية يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي الحزب الفائز بتشكيل الحكومة، وقد بدأت حركة النهضة فعليا ومنذ أسبوع اتصالاتها الأولية بقادة عدد من الأحزاب الفائزة بعدد من المقاعد في البرلمان القادم؛ تريد مشاركتهم في تشكيل حكومة وتريد أيضا ضمان تصويتهم حتى تنال الحكومة التزكية عند عرضها على البرلمان.
المفاوضات تدور في أجواء غير مريحة وتحت ضغط إعلامي كبير، أيضا تحت اشتراطات تبدو مجحفة، خاصة من قِبل حركة الشعب ذات التوجه العروبي والتي تشترط عدم رئاسة النهضة للحكومة، وكذلك التيار الديمقراطي الذي يطال بوزارات مهمة، خاصة الداخلية والعدل، كشرط لمشاركته في حكومة النهضة.
هذه الاشتراطات جعلت الساحة السياسية على درجة عالية من السخونة والتوتر، خاصة حين يكون الاتحاد العام التونسي للشغل على الخط ويهدد بعدم التعامل مع حكومة يشارك فيها ائتلاف الكرامة؛ لكون عناصره (بتعبير حفيظ حفيظ عضو المركزية النقابية) هم من "الدواعش". وقد دون الاتحاد على صفحته مساء السبت ما يلي:
"لن نتعامل مع أية حكومة فيها دواعش من يسمى سيف الدين مخلوف من بعيد أو من قريب.. نقولها لهم: لا علاقة لكم بتونس و تاريخها.. من تنكر لحداثة تونس ومدنيتها ليس منا"، وهو ما أثار ردود فعل واسعة تجاوزت عضو المركزية حفيظ حفيظ لتشمل الاتحاد العام التونسي للشغل عامة.
غير أننا وبتفاؤل هادئ نرى أن مجرد جلوس "الخصوم" السياسيين الى بعضهم بنية البحث عن مشتركات هو أمر إيجابي، إذ ما كانوا ليجلسوا إلى بعضهم لو لم تكن لديهم نية في التوصل إلى حلول ومشتركات.
من الطبيعي جدا أن التفاوض كلما كان موضوعه أكبر كانت مساراته أعسر، ولا أحد ينتظر أن يتم اتفاق في جلسة واحدة أو حتى جلستين، بل الأجدى أن تكون المفاوضات جدية وأن تأخذ ما تحتاجه من الوقت نظرا لأهمية ما يتفاوضون عليه، وهو مصلحة البلاد والعباد، ومحاربة الفساد، وصيانة السيادة الوطنية، وتحقيق العدالة وحماية الحريات، وتحقيق التنمية، وتوفير الأمن المدني والأمان النفسي لعموم التونسيين.
مطلوب من "معسكرات" الأحزاب الفيسبوكية أن تسلم "أسلحتها" لخَزَنة العتاد، وأن ترافق العملية الحوارية بالترشيد والتشجيع وبتبريد الأجواء التنافسية والعواطف الخصامية التي لا تنفع السياسة ولا البلاد، ولا تجلب خيرا لعموم الناس، ولا تؤسس لدولة الحرية والديمقراطية ولا تضمن تحقيقا لبعض من أشواق الثورة.
جلسات الحوار هي بحد ذاتها إنجاز حتى إذا لم يتوصل المتحاورون إلى رؤية للحكم مشتركة، فحسبهم أنهم كسروا حاجز "النفور" وأنهم جلسوا إلى بعضهم مبتسمين، وأنهم تكلموا في أجواء من الاحترام والهدوء دون صخب ولا عنف ولا إساءة. وذاك ليس هيّنا بنظري؛ بالنظر إلى ما يعتمل في صفحات الفيسبوك من "حروب" لا تراعي إلاّ ولا ذمة، ولا تُبقي على مسافات أمان واحتمالات عودة.
إن أقصى ما يمكن أن يكون في حال عدم التوصل إلى رؤية مشتركة للحكم، هو الذهاب من جديد إلى الصناديق
3- تعديل القانون الانتخابي والقطع مع "السيستام"
إعادة الانتخابات وبالقانون الانتخابي الجديد، ورغم كلفتها المادية والزمنية، هي أفضل وأجدى من تشكيل حكومة محاصصة ضعيفة وتحت الابتزاز، ومهددة بالفشل في أسرع وقت.
إعادة الانتخابات ليست كارثة وطنية ولا أزمة سياسية ولا سابقة تونسية،
فنتائج الانتخابات الحالية لا تسمح ولن تسمح بتشكيل حكومة قوية ناجحة، بل إنها ستُبقي المشهد السياسي متلبدا مخاتلا ومهددا بالتفجر في كل لحظة، خاصة وحملات التشويه والترذيل المتبادلة لن تتوقف لا قبل ولا بعد تشكيل الحكومة وأثناء ممارسة الحكم. الأفضل أن تعلن النهضة فشلها في تشكيل الحكومة، وأن تمنع تشكل حكومة الرئيس، وأن تدفع نحو انتخابات جديدة وبالقانون الانتخابي الجديد بعد إمضاء الرئيس عليه
فليتحمل الشعب مسؤوليته في اختيار من يحكم البلاد يتابعونه ويحاسبونه لخمس سنوات قادمة، وليس كارثة على النهضة (إذا لم يخترها الشعب) أن تكون في المعارضة تراجع نفسها وتعيد ترميم هياكلها وتستجمع شبابها، وتستعد لمحطات قادمة دون تخل عن رسالتها الاجتماعية والثقافية والتربوية.
أما إذا أعاد الشعب انتخابها بأغلبية مريحة ومكنها من الحكم فلتحكم لوحدها، أو مع من يشاركونها "العبء" وليس "الغنيمة"، ولتتحمل مسؤوليتها كاملة أمام الشعب والوطن والتاريخ.
القول (بعد انتخابات 2019) بأنه تم القطع مع "السيستام" هو قول لا معنى له؛ ما لم يكن قطعا مع النظام الانتخابي المعتل الذي شل الحياة السياسية وسمّم أشواق الثورة، ومكن الفارغين والتافهين واللصوص، وعبر قانون "البقايا" و"البواقي" و"الفواضل"، من اعتلاء منابر عليّة يمارسون عبثهم وصراخهم
الذهاب إلى الصناديق من جديد (رغم كلفته المالية والزمنية) هو بنظري خيار جيد، بشرط إمضاء رئيس الجمهورية على القانون الانتخابي الجديد.. خيار جيد لأنه سيضبط حالة الانفلات السياسي وسيُقلل من حالة التشظي البرلماني، وسيجعل الانتخابات أكثر جدية حين يتهيّبها من يفكرون في الترشح، وحين لا يصعد للبرلمان إلا من كان لهم "وزن" سياسي واتزان عقلي وتوازن نفسي، فتتعافى الساحة من المهرجين والغوغائيين والانتهازيين، ومن الذين يأكلون لحوم الناس وأعراضهم ليكتسبوا على حسابهم أصواتا في الصناديق.
هل يقود الرئيس المنتخب تونس نحو التغيير؟
تشكيل الحكومة التونسية: المأزق والمآلات الممكنة