قدم أدونيس عملاً ضخمًا حمل عنوان "بيروت ثديًا للضوء" (2018) جمع فيه كتابات وحوارات عديدة كتبت وعقدت على مدى ما يزيد على نصف قرن من الزمان، فكانت بيروت حاضرة فيها أمكنة وأنشطة وشخصيات، ولا يمكن النظر إلى هذا العمل على أنه مجرد عمل شعري أو فكري أو ثقافي فحسب، وإنما بدا أشبه بمراجعة شاملة، لا لعلاقة أدونيس ببيروت أو لجزء هام من سيرته الذاتية، وإنما بتأكيد منحى الحداثة الذي تبناه أدونيس على مدى المرحلة الحرجة التي شكلت العرب في العصر الحديث.
لا تصعب إعادة العنوان "بيروت ثديًا للضوء" إلى عمل آخر قدمه أدونيس في أحد أعداد سلسلة "كتاب في جريدة"، حمل عنوان: "الجدي على الثدي"، وهي عبارة مقتبسة من كتاب "الفصول والغايات" للمعري، جاء فيها قوله: "صروف الأيام تريك الجدي على الثدي!".
إن دلالة العنوان تشير إلى جانب مهم من السيرة الذاتية لأدونيس، ثم بيروت، ولكن ذلك ليس أهم ما في الأمر بل إنّ الربط بين أدونيس وبيروت والحداثة - بدلالة الضوء - هو معقد الأمر ومآله، فليس مما يدعو للشك أنّ أدونيس يمثل واحدًا من أبرز دعاة الحداثة في العالم العربي، شعرًا وفكرًا ونقدًا، وليس من قبيل الصدفة أن تمثل بيروت الأفق والفضاء الحاضن لمنظري الحداثة والداعين إليها خاصة منذ منتصف القرن الماضي، حيث مثلت الفضاء الثقافي والفكري المنفتح على طروحات الفكر الغربي دونما قيد أو حدّ أو ضمانة، فما هو منظور أدونيس لبيروت؟ ولِمَ لَمْ تكن دمشق أو القاهرة هي الحاضنة لفكر الحداثة؟ وأي فهم للحداثة اقترنت به بيروت دون غيرها؟ وأي دور أعطي لدمشق أو القاهرة في رأي أدونيس؟
لقد أخذت بيروت مكانة متميزة بتصريح أدونيس غير مرة، والغريب في الأمر أن ذلك لم يأت في الحدود الفكرية والشعرية فحسب، وإنما في حدود الأمكنة والشوارع والأبنية، كأنما أدونيس كان منذورًا لهذا اللقاء، والأغرب من ذلك موقف أدونيس من دمشق الذي ظل يحمل ظلالاً سلبية، لم تعجبه عراقة دمشق، أمضى في دمشق ست سنوات (1950-1956) لم يعرفها بتفاصيلها؛ شوارع، وآثارًا قديمة، ومعمارًا.
لم يزر متحفها، لم يزر الجامع الأموي، ولا القلعة. كانت دمشق بالنسبة له "مجرد غرفة ضيقة..."، لم تكن بالنسبة له مدينة، كانت "تاريخًا، كانت زمانًا، لا مكانًا"، ترك دمشق بسبب السجن، ثم يوسف الخال، ثم "شغفًا ببيروت"!
أما بيروت فهي تحضر حضورًا ممتلئًا مادة وفكرًا وروحًا، امتزج أدونيس ببيروت فاستحلاها – حسب قوله - بيوتًا وطرقًا وحوانيت، وحدائق غنّاء، وشاطئًا يعانق أمواج البحر الأبيض المتوسط، فشعر بوجوده العيني يتشخص إلى أقصى مدى، ليمنحنه هبة الحضور.
وإذ يملي السياق التاريخي لمنتصف القرن الماضي وما بعده أن تحظى القاهرة بمكانة مركزية لشاعر ومفكر طموح، فإن لأدونيس نظرة مغايرة، لا للقاهرة كمكان حظي بسلطة ثقافية وسياسية في تاريخ العرب المعاصر، وإنما كفضاء للعالم الحديث؛ للحداثة كما اشتهاها أدونيس، فقد كانت القاهرة – بنظره - "طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، المركز العربي الأول لما يمكن أن نسميه "صراع المعاني" في الثقافة العربية، وبدءًا من أواخر الخمسينات أخذت بيروت تحل محلها. غير أن "صراع المعاني" في القاهرة كان يأخذ طابع التحرر من الآخر، غير العربي"، "أما في بيروت فقد ازدوج هذا الصراع: انضاف إلى هاجس اختلاف الذات عن الآخر، هاجس اختلاف من نوع آخر. لم تعد المسألة تغايرًا بين هوية وهوية، لكل منهما لغتها الخاصة وثقافتها الخاصة، وإنما أصبحت المسألة تغايرًا داخل الهوية الواحدة ذات اللغة الواحدة والثقافة الواحدة".
هكذا صارت بيروت - كما يقول – "مكانًا للسؤال حول كل شيء، ومكانًا لإفساد كل شيء، بالمعنيين – الإيجابي والسلبي. وهي، في هذا لم تكن مجرد مدينة. كانت بقعة مصغرة لبلاد شاسعة، وتاريخًا مصغرًا لمسار ثقافي كامل. ومن هنا، كانت مختبرًا لتيارات عديدة متضاربة في الاقتصاد والثقافة والتربية والفنون". لقد اجتمع في بيروت - المتخيلة في ذهن أدونيس – تناقضات وتضاربات لا حدّ لها، ليس ذلك بتصوره لها على أنها مكان للإفساد، وإنما بما هو أخطر من ذلك، أن تكون بلا هوية، فأي حداثة هذه التي تصر بلا هوادة على ضرورة أن تكون بلا هويّة، أو ألّا تكون!
هكذا يوزع أدونيس عراب الحداثة في العالم العربي الأدوار لمدن الحداثة العربية المركزية، فيجعل دمشق للتاريخ للماضي، فهي إذن لا تخص الحداثة في شيء.
ويرى في القاهرة بعدًا واحدًا للحداثة لا يرتضيه، هو بعد قومي محصور في تحرر العربي من الآخر الغربي، ولأنه مفهوم لا يلغي الهويّة، فهو لا يكفيه. أمّا بيروت فيرى فيها التحرر المطلق ليس ذلك على صعيد النشاط الإنساني أو الفكري أو الروحي، بل يراه في عمق الجذور والأصول، في أساس الهويّة المشكلة للذات، قوميّة كانت أو دينيّة. فأيّ حداثة يطلبها أدونيس؟ أن نكون كونيّين كما يلحّ باستمرار. أيّ حداثة بهذا المفهوم قادرة على إظهار فاعلية إنسان لا يُرى إلا في ضوء الآخر، جعل وجوده مرهونًا بصورته فلا مجال له إلا أن يطابقه أو يماثله حتى يكون حداثيًا!