قضايا وآراء

لماذا يدفع ترامب لانهيار الاتحاد الأوروبي؟!

1300x600
من المسلمات في العلاقات الدولية، أن الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يعمل إلا من منطلق وتوجيه أمريكي، وأن مساحات الاختلاف والتجاذب تكاد تكون قليلة، وفي ملفات إقليمية ودولية متفق بشأنها في كثير من الأحيان، لكن في الوقت الراهن تغير هذا الوضع، منذ تولي الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" الرئاسة، والذي دفع إلى تدمير إرث من العمل المشترك؛ الذي جمع بلاده بالاتحاد الأوروبي، إذ نقل "ترامب" أمريكا من حليفة للأوروبيين إلى خصم لهم.
 
"ادفعوا ما عليكم":
 
أصبحت الدول الأوروبية، تبحث عن المزيد من حرية الحركة، والاستثمار في واقع دولي تسيطر عليه حاليا الولايات المتحدة، لكن لا ريب في أن إهانات "ترامب" للدول الأوروبية، بجملة "ادفعوا ما عليكم"، وتحركاته غير المواتية للمصالح الأوروبية، كانت كافية لاستفزاز مشاعر بعض القادة الأوروبيين، لا سيما قادة ألمانيا وفرنسا، الدولتين الأكثر فاعلية في الاتحاد الأوروبي، هذا إضافة إلى علاقات أمريكا المتشابكة مع ملفات متعددة، والتي لا تستطيع العمل بها منفردة.. خلقت هذه المشاعر التي توصف "بالعدائية"، الرغبة لتأسيس "جيش حقيقي" للدفاع عن أوروبا.
 
كانت الدعوة الأولى من الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، الذي دعا في أيلول/ سبتمبر 2018؛ إلى تأسيس جيش أوروبي خاص، للحد من الاعتماد على الولايات المتحدة، معللا ذلك بصعوبة حماية مصالح الأوروبيين، وخصوصا ضد التحرك الصيني الروسي، ما لم يكن هناك جيش أوروبي خالص. وعلى خطى "ماكرون"، مضت المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل"، لتدعو في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 لتأسيس جيش أوروبي، يُكمل عمل حلف الشمال الأطلسي "الناتو".

ويُذكر أيضا أن العديد من الدول الأوروبية، أيدت بقوة تأسيس جيش أوروبي مشترك.
 
السعودية نموذج مهين:
 
تاريخيا، اعتمدت أوروبا على القوة الأمريكية، من أجل مواجهة الأخطار التي تواجهها، في إطار حلف "الناتو". لكن مع قدوم الرئيس "ترامب" لسدة الحكم بتوجهات اقتصادية شرهة، وأخرى قومية "شعبوية" تتلاعب بعواطف ناخبيه، لزم عليه التشدد للمصلحة الأمريكية بعيدا عن مفهوم المصلحة القطبية الغربية، فأضحت الدول الأوروبية بحاجة ماسةٍ لقوةٍ بديلة عن القوة الأمريكية؛ التي تُخالف المصلحة الأوروبية في ما يتعلق بملفات متعددة منها: الإيراني والفلسطيني والسوري، وملفات التعاون الاقتصادي الحر، وغيرها من الملفات التي لُخصت في تخوف الأوروبيين من اتباع ترامب نظرية "الدفع مقابل الأمن" معهم، كما يفعلها مع دول أخرى، على رأسها المملكة السعودية، باستنزاف مواردها وبلغة سياسية هابطة، لم يسبقه إليها أي من الرؤساء الأمريكيين.
 
الدفع لانهيار الاتحاد الأوروبي:
 
لقد حاولت حكومة "ترامب"، منذ البداية، دق إسفين بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من وجود "ميركل" بالقرب من "ترامب" في لقاء قمة الدول السبع، إلا أن الرئيس الأمريكي لم يبد رغبة في لقائها، سواء في هذه الرحلة أو في المستقبل القريب. وخلال مدة رئاسته التي تعدت العامين، التقى "ترامب" مع "ميركل" في ألمانيا مرة واحدة، لحضور قمة مجموعة العشرين عام 2017 في هامبورغ، ولم يتم استقباله ضيفا في برلين.
 
يقول الخبراء إن هذا التجاهل هو جزء من استراتيجية أوسع، يتبعها "ترامب" منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة؛ والذي فتح منذ صعوده إلى البيت الأبيض جبهات مع أغلب شركاء بلاده تحت شعار "أمريكا أولا". فلم يكف من انتقاداته للاتحاد الأوروبي، ودعم القرار البريطاني "بريكست" بالخروج منه، متحدثا عن أن دولا أخرى ستتخذ المسلك ذاته، مما أثار حفيظة الأوروبيين، وأجج من توتر العلاقة بين أمريكا والاتحاد الأوروبي، بالشكل الحالي غير المسبوق.
 
إذ كانت واشنطن براغماتية ترى أن مصلحتها في أوروبا موحدة وقوية، أولا لمواجهة الاتحاد السوفييتي سابقا في الحرب الباردة، وثانيا من أجل مشاركة قيم الديمقراطية والتعاون التجاري، بعد انهيار جدار برلين!
 
على الجانب الآخر، لم يقف الاتحاد الأوروبي صامتا، أمام محاولات "ترامب" لدفعه للانهيار، فقد وجه "دونالد توسك"، رئيس المجلس الأوروبي، رسالة إلى رؤساء حكومات ودول الاتحاد؛ يقول فيها إن أمريكا "ترامب"، باتت بالنسبة للأوروبيين سياسيا، في مستوى دولتي روسيا والصين، وحركة الإسلام الراديكالي.
 
نعم للدول ولا للمنظمات:
 
من الملاحظ أن سوء علاقة "ترامب" بالاتحاد الأوروبي، لم يتكرر بالدرجة ذاتها مع أعضائه. ففي الوقت التي رفعت واشنطن وبرلين، سقف انتقاداتهما لبعضهما البعض، خرج "ترامب" ليصرح أن فرنسا هي الحليف الأعظم لأمريكا، وهو تصريح يقفز حتى على بريطانيا، التي كانت تعتبر نفسها إلى وقت قريب الحليف الأبرز لأمريكا أوروبيا على الدوام.
 
تفسير ذلك؛ أن "ترامب" مقتنع بأن تكتل الأوروبيين داخل اتحادهم سيجعلهم أكثر قوة في مفاوضاتهم التجارية والاقتصادية، عكس ما سيكون عليه الحال لو جرى التفاوض مع كل دولة لوحدها، وهو ما تفهمه "ماكرون"؛ الذي لم يقف كثيرا عند مؤسسة الاتحاد الأوروبي في محادثاته الأخيرة في واشنطن.
 
مشاكل أوروبية معقدة:
 
لم يكن "ترامب" ليستمر في مسعاه، بتشتيت الاتحاد الأوروبي، لولا المشاكل الكبيرة المعقدة التي تعيشها أوروبا في السنوات الأخيرة، في مقدمتها تصاعد حركات اليمين الشعبوية؛ في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا وهولندا، بل الأسوأ من ذلك، وصول قيادات هذا اليمين إلى الحكم، كما حدث في المجر. تتقاطع أجندة هذه الحركات، مع "ترامب" في المطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ويأتي ملف الهجرة على رأس الأسباب السياسية الداخلية؛ الذي يؤرق القادة الأوروبيين، ولكل دولة على حدة، خاصة مع تدفق المهاجرين واللاجئين خلال السنوات الأخيرة، بأعداد لا نظير لها من قبل، مما ترتبت عليه معضلات سياسية واقتصادية واجتماعية، لا قبل لهم بها؛ قوضت جهود الأحزاب اليسارية، وأفقدتها أصوات ناخبيها، دون نسيان ملف الإرهاب الذي عانت منه القارة مؤخرا، والذي يشار فيه بأصبع الاتهام إلى اللاجئين، وإن لم يكن هذا حقيقيا في أحيان كثيرة، بينما كانت أمريكا أكثر صمودا في إدارة هذا الملف.
 
الاتحاد الأوروبي لم يستطع أن يفرض نفسه كمحاور قوي أمام الولايات المتحدة، والسبب لا يعود فقط لخطط "ترامب"، بل لعدم وجود رغبة قوية لدى القادة الأوروبيين بالدفاع عن مصالح منظمتهم الإقليمية، بالشكل الذي يدافعون به عن مصالح بلدانهم، وهو ما يستغله الرئيس الأمريكي في خلق الفتنة داخل الاتحاد، بتقويض حتى العلاقات التجارية بين أعضائه، كمحاولته دفع دول أوروبية إلى التوجه إلى السوق الأمريكي لشراء الأسلحة، بدلا عن أسواق دول أوروبية.
 
الرجال الأقوياء غير الديمقراطيين:
 
إن كراهية الرئيس "ترامب" للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي؛ تتأتى من رفضه مبدأ الأحلاف، والسعي إلى تعزيز العلاقات الثنائية، حفظا لمصالح الولايات المتحدة، كما يدّعي، وابتعادا عن المفاوضات الجماعية؛ التي يمكن أن تُضعف من حظوظه، في فرض خطة الطريق الخاصة بأجندته الديماغوجية؛ التي يغازل بها ناخبيه، خصوصا في الملفات الاقتصادية والمالية.
 
فبعد أن كان التعاون الأمريكي/ الأوروبي قائما على الانتماء المشترك، إلى الديمقراطية الليبرالية، فإن الرئيس الرابع والأربعين لأمريكا كرر في أكثر من مناسبة؛ إعجابه بالديمقراطيين غير الليبراليين، وحتى بمن يسميهم "الرجال الأقوياء" غير الديمقراطيين، ليس في أوروبا فحسب، ولكن في بلدان العالم المختلفة، والتي تمثل تغييرا عميقا في السياسة الأمريكية التي ستميز هذه الحقبة من تاريخها.
 
رغبة قوية بالاستمرار:
 
لا يوجد حل أمام الأوروبيين، للبقاء أقوياء أمام العالم، سوى بالتكتل. الاتحاد الأوروبي سيكون محكوما عليه بالفشل؛ إذا لم تعمل دوله الأعضاء على اندماج أكبر، فمن المؤكد أن الوضعية الحالية غاية في الصعوبة بالنسبة لأوروبا، ولكن يبقي الأمل قائما، إذ تشير كل استطلاعات الرأي في الدول الأوروبية المختلفة، وبعد "البريكسيت" البريطاني، الرغبة القوية بالاستمرار داخل منظمة الاتحاد الأوروبي.