تلعب الزوايا والطرق الصوفية في الجزائر دورا سياسيا هائلا، بسبب تجذرها تاريخيا، وامتدادها على كامل الجغرافيا الجزائرية، حيث تعد البلاد مئات الزوايا والطرق الصوفية، التي يمتد تأثيرها ليس فقط داخليا، وإنما حتى إلى أدغال إفريقيا، حيث يوجد ملايين الأتباع والمريدين.
ورغم التأرجح الذي عرفته هذه الزوايا تاريخيا، بين المقاومة الشعبية للاستعمار في البداية، والرضوخ له بعد ذلك، وصدامها أحيانا مع الحركة الإصلاحية الوطنية، بقيادة الشيخ ابن باديس، بعد أن انحرفت عديد الطرق والزوايا عن نهجها المقاوم، وتفرغت لنشر الخرافة والقدرية (الاستعمار قضاء وقدر من الله لا تجوز مقاومته)، إلا أنها مع ذلك مارست قدرا محترما من المقاومة الروحية، حين حافظت على تعليم القرآن الكريم للأجيال المتعاقبة، وضمنت منع اندثار اللغة العربية.
وبعد الاستقلال، لعبت هذه الزويا والطرق الصوفية، دور الداعم الرئيس للنظام الجديد، إلى أن رضخت لإغراءات الحكم البوتفليقي، وانخرطت بشكل كامل في دعم منظومة الحكم الفاسد، مستندة إلى عملية ضخ مالي رهيب، مارسه النظام السابق، مع أشراف الطرقية والزوايا، لتكون رافدا أساسيا من روافد الخراب، بعد أن تم إقصاء الإسلام السياسي من المشهد، منذ واقعة الفوز الكاسح للجبهة الإسلامية للإنقاذ قبل ثلاثة عقود.
والمثير في المشهد الجزائري اليوم، أن جل المرشحين لمنصب رئاسة الجمهورية، في انتخابات 12 كانون أول (ديسمبر) المقبل، ورغم وجود قدر لا بأس به من الرفض الشعبي لهذه الانتخابات، إلا أنهم فضلوا الشروع في حملتهم الانتخابية على نفس النغمة البوتفليقية، انطلاقا من الزوايا ذاتها، في محاولة لاستجلاب نفس "صكوك الغفران" التي جلبها الرئيس المخلوع، فهل يعد ذلك مؤشرا سيئا لهذا الحد؟ وهل فعلا يمكن للزوايا والطرق الصوفية أن تمتلك نفس التأثير السابق في المشهد السياسي؟ أم أن الحراك قد غير المعادلة، وأعاد لجم هذه القوى الدينية التقليدية في لعب أدوار سياسية تتجاوزها؟.
مرشحون على أبواب الزوايا
أحدث إقدام جل المرشحين للانتخابات الرئاسية الجزائرية، على بداية حملتهم الانتخابية انطلاقا من طلب ود الزوايا، وبركة الطرقية الصوفية، إلى جدل واسع بين الجزائريين، حول حقيقة أن تكون المنظومة البوتفليقية قد انتهت، فقد كان الرئيس السابق مولع جدا بهذه الزوايا بسبب تكوينه العائلي، وتوجهاته المناوئة للاسلام السياسي، أما أن يبدأ المرشحون لخلافته ، بعد حراك شعبي عظيم، من نفس النقطة التي انطلق منها سلفهم، فهذا مؤشر مقلق يضاف الى كون المرشحين هم بالأصل من المنظومة القديمة بشكل أو بآخر.
لقد ظهر ثلاثة من بين خمسة مرشحين للرئاسة، في اليوم الأول من بدء الحملة الانتخابية في ولاية واحدة بالجنوب الجزائري هي ولاية أدرار، وكلهم قد اختاروا بالصدفة الغريبة، التمسح بالأضرحة والزوايا انطلاقا من نفس المنطقة، فرأى الجزائريون بكثير من الدهشة، دموع وزير الثقافة السابق، المرشح عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي عز الدين ميهوبي، وهو يذرف الدموع، أمام موعظة لشيخ زاوية، بعد أن زار الزاوية البكرية ببلدية تمنطيط وزاوية سيدي لحبيب، في حين اختار عبد العزيز بلعيد رئيس جبهة المستقبل، ضريح الشيخ سالم بن براهيم أحد شيوخ الطرق الصوفية بنفس الولاية، ليأخذ بركة انطلاق حملته من هناك.
والمثير أن المرشح الذي يوصف بالمرشح القوي في الجزائر، عبد المجيد تبون، التحق بدوره بالركب، حيث توجه أيضا إلى زاوية الشيخ بلكبير بأدرار، لتكون انطلاقة حملته الانتخابية من هناك، الأمر الذي يدعم فرضية قديمة، تقول أن زوايا ولاية أدرار، كانت تعتبر دائما مركزا هاما لمنح التزكيات السياسية للشخصيات التي تقصدها، لما لها من تأثير على صناعة القرار داخل منظومة الحكم في البلاد.
لكن في المقابل، إذا كان المرشح الرابع علي بن فليس رئيس حزب طلائع الحريات، المنافس الشرس للرئيس بوتفليقة في عديد المحطات الرئاسية الماضية، قد تجاهل الأمر، وفضل الانطلاق من مدينة تلمسان مكان مولد الرئيس السابق، فإن المرشح الأخير، عبد القادر بن قرينة، رئيس حركة البناء الإسلامية (إخوان)، عاكس التيار كلية، ولم يكتف ببدء حملته من قلب العاصمة، حيث معقل الحراك الرافض للانتخابات، في تحد أذهل الجميع، وإنما أعلن بكل جرأة أنه سيحاسب الزوايا التي دعمت العصابة والعهدات السابقة لحكم بوتفليقة في حال فوزه.
وقد خلف هذا المشهد، تساؤلات حقيقية عن امكانية أن يكون المرشحون الذين استغلوا ورقة الزوايا بهذا الشكل، قد أحدثوا خرقا صارخا لضوابط والتزامات ميثاق أخلاقيات الحملة الانتخابية التي وقع عليها المرشحون أنفسهم قبل البدء في العملية، خاصة فيما يتعلق بالإلزام رقم 11 من الميثاق "يجب على المرشّحين والأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات احترام مبدأ حظر استعمال أماكن العبادة والمؤسّسات والإدارات العمومية وكذا مؤسّسات التربية والتعليم والتكوين، بأيّ شكل من الأشكال، ومهما كانت طبيعتها أو انتماؤها، لأغراض الدعاية الانتخابية".
إلا أن سلطة الانتخابات رفضت تلك الاتهامات، واعتبرت أنه طالما كانت الزيارات لتلك الأماكن الروحية مجرد زيارات، ولم يتم تنشيط الحملات الانتخابية داخلها، فلا وجود لأي خرق للميثاق.
دمج الخطاب الديني مع الوطني
رغم أن القانون الجزائري، يفصل بين العمل السياسي والاستغلال الديني، إلا أن ذلك لم يمنع من ممارسات تتجاوز دائرة الاستغلال الحزبي للدين، في عملية التأثير والترويج، إلى ممارسات صارت تدفع بها السلطة الحاكمة نفسها، حين تمنع من جهة على المعارضات استغلال الدين، بينما تستغل السلطة المؤسسة الدينية، بأشكالها المتعددة في جميع المحطات تقريبا، ما سبب في فترات مختلفة حدوث فتن وصراعات سببها، إما تجنيد الزوايا، أو توظيف المساجد والخطاب المسجدي لصالح توجهات الدولة.
وهنا تجدر الاشارة الى تصريح لوزير الشؤون الدينية، يوسف بلمهدي قبل ايام فقط، أكد فيه أنه "لا يمكن فصل سياق الخطاب الديني عن الخطاب الوطني"، معتبرا أن "الانسجام الحاصل بين الخطابين الديني والوطني على مر المراحل التاريخية التي عاشتها الجزائر كثيرا ما نتج عنه نشر الوعي المجتمعي في تجاوز الأزمات والصعاب التي تمر بها البلاد". داعيا إلى "محاربة الخطاب الداعي إلى الفصل بين الخطابين الديني والوطني وفق مرتكزات إيديولوجية دخيلة".
وهذا يعني أن المساجد عليها أن تلعب دورا في التوعية لصالح الدعوة للانتخابات، وإقناع المصلين بذلك، دون الحاجة إلى إعطاء الأوامر للأمة، والأمر ذاته ينطبق على الزوايا في أن تتجند لذات المهمة الوطنية النبيلة، بالنظر إلى حجم الرفض الشعبي للانتخابات، وضغوطات الحراك في هذا الاتجاه.
ولذلك من المستبعد أن تعلن الزوايا والطرق الصوفية تأييدها بشكل مباشر لمرشح بعينه، كما جرت العادة في السابق، ففي هذه المرة، تلتزم المؤسسة العسكرية صاحبة خارطة الطريق الدستورية، بعدم تدعيم أي مرشح، وانحياز الزوايا لأي مرشح سيتم اعتباره قد تم بالإيعاز مما قد يسقط شعارات النزاهة عن الانتخابات المقبلة.
ولعل هذا الوضع غير الطبيعي، بالنسبة لدور الزوايا والطرق الصوفية، في اعتماد الحيادية (لحد الآن)، قد أقلق أطرافا كثيرة، تتمنى أن تحظى بدعم الوعاء الصوفي الواسع، الأمر الذي دفع بتلك الأطراف إلى محاولة التشويش عبر نشر بيان مزيف عبر مواقع التواصل الاجتماعي باسم "النقابة الوطنية للزوايا والأشراف"، يزعم دعمها لأحد المرشحين، ما أثار جدلا واسعا، قبل أن يتبين أن الهيئة وهمية، لا أحد يعرف نسبها ولا تمثيلها ولا القائمين خلفها.
تأثير موجود لكنه ليس فاصلا
ولفهم الدور الذي لعبته الزوايا والطرق الصوفية أكثر، يقول المفكر في قضايا القيم وفلسلفة الدين والسياسة البروفيسور موسى معيرش، أن الزوايا والطرق الصوفية لعبت منذ القدم دورا فاعلا في مختلف ميادين الحياة، مما جعل السلطة السياسية تسعى إلى استمالة رجالاتها، كما تولت أمر توجيه أمور الناس فيما يتعلق بالمسائل الدينية.
ويشير البروفيسور معيريش أنه عند سقوط الحكام والملوك كان شيوخ الزوايا يتصدرون المشهد السياسي والعسكرى، فيقودون لواء المقاومة، وهذا ما تجسد بوضوح مع المقاومات الشعبية التي قادها الأمير عبد القادر، بوعمامة، الشيخ الحداد، لالة فاطمة نسومر، وغيرهم كثير، غير أن تغلب الفرنسيين حول الزوايا لتقوم بدور مغاير وهو توطيد أقدام الاستعمار، مما دفع رجالات الإصلاح للتصدى لها.. وبدلا من دور الدفاع عن المقومات صارت تلك الزوايا أدوات الاستعمار، وبعد الاستقلال واصلت هذه الطرق دورها في خدمة السلطة السياسية والترويج لسياساتها المختلفة المتناقضة، خاصة مع خلاف جمعية العلماء والحركات الإسلامية مع مختلف أنظمة الحكم .
ومع ذلك يؤكد المفكر موسى معيريش أن الزوايا حققت مكتسبات مالية واجتماعية كبرى، مما جعلها تسعى جاهدة للمحافظة عليها، وهذا ما يفسر سعى رجالات السياسة للاستفادة من قاعدتها، بحكم قدرتها على تجنيد أتباعها في مختلف الظروف.
ويخلص أستاذ الفلسفة بجامعة عباس لغرور (ولاية خنشلة)، البروفيسور معيريش في حديثه لـ"عربي21" إلى أن الوعي الثقافي والاجتماعي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، يجعل من الصعوبة على هذه الزوايا والطرق أن تلعب نفس الدور السابق، إلا أن تأثيرها يبقى واردا، لكنه ليس فاصلا.
هذه شروط تأثير الزوايا
أما أستاذ العلوم السياسية الدكتور يحيى بوزيدي فيرى أن الزوايا والطرق الصوفية تعتبر وعاء انتخابيا تقليديا للأنظمة السياسية العربية، وهي غالبا ما تدعم مرشح النخبة الحاكمة ونادرا ما انحازت لمرشح من المعارضة، والانتخابات الرئاسية الجزائرية لن تكون استثناء، غير أن الإشكال يكمن في هوية مرشح النخبة الحاكمة، والأزمة الحالية تضفي بعض الالتباس عن الشخصية التي تحبذها السلطة، والقرار يعتمد على شبكة العلاقات بين شيوخ هذه الزوايا والطرق مع السلطة.
ومع ذلك يؤكد الدكتور بوزيدي لـ "عربي21" أن مريدي هذه الطرق محدودين مقارنة بالوعاء الانتخابي بشكل عام، وفي حالة الإقبال الكبير على الانتخابات لن يكون للزوايا تأثير كبير، ولكن في حالة الإقبال الضعيف وهذا المتوقع فإن هذه البنى الدينية التقليدية ستضاف للبنى الاجتماعية والسياسية الأخرى التي يصب جلها في وعاء السلطة.
ويصور البروفيسور محمد بن يحيى الطيبي، باحث في السوسيوانثربولوجيا، مشهد مرشحي الرئاسة الذين يتعلقون بأستار الزوايا، تصويرا خاصا فيقول: "عادة يلجأ إلى الفضاء الروحي إما الهارب من الله أو الهارب إلى الله"، مستدركا أن أصحاب الترشح ليسوا من هؤلاء بل هم يبحثون "عن اختراق إيهامي وغش سياسي لا ينطلي على أحد إلا إذا باع شيخ الزاوية ضميره فعلا وصار ثكنة للتجنيد السياسي".
الفضاء الروحي مفتوح للناس أجمعين كما يعتقد البروفيسور محمد الطيبي، إنما التأثير له قواعد كأن تدخل الزاوية في شبكة مندمجة تلعب فيها المصالح و الاسعار دورا فعليا.
ويؤكد البروفيسور محمد الطيبي اعتمادا على خبرته الطويلة في الميدان لـ "عربي21" أنه ليس في متناول جل المترشحين لمنصب الرئاسة الجزائرية باستثناء حالة واحدة (لم يشأ أن يحددها) التأثير في اتباع الزوايا انتخابيا، مشيرا أن احتواء الزوايا يحتاج إلى استراتيجية تتجاوز ذرف الدموع (كما فعل أحد المرشحين).
ويجدد البروفيسور محمد طيبي في الأخير على أنه يمكن للزوايا أن تؤثر في المشهد السياسي فقط إذا دخل الأشراف و أهل الحل و العقد لصالح مرشح بعينه، و هذا احتمال قائم في حالة واحدة لها جذورها القديمة في هذا الفضاء.
فرصة لتصحيح الأخطاء
وعليه لا يمكن اعتبار الانتخابات المقبلة في الجزائر، ونحن على بعد أقل من شهر واحد عنها، في حال أجريت ولم يتم الغاؤها، إلا بمثابة فرصة حقيقية لكي تصحح الزوايا والطرق الصوفية أخطاءها السابقة، في حق الوطن والمواطن، عبر حصرها في دورها الطبيعي في صيانة الهوية الحضارية للأمة وترقيتها، وليس التحول الى ثكنات للتنجيد الانتخابي، يفضي بها في النهاية الى التدجين والتمييع.
اليوم، هناك حراك شعبي كبير، وأحلام وردية كبيرة، لم تحرك فقط نخبا كانت إلى وقت قريب مستكينة، مثل القضاة والصحافيين وعمال التربية، بل حركت عمال القطاع الديني الرسمي، من الإمامة إلى سائر الرتب، أئمة، قيمين، مؤذنين، أساتذة التعليم القرآني، وكلاء أوقاف، مرشدات مفتشين وأسلاك مشتركة، للمطالبة بحقوقهم والاحتجاج لتحقيقها، ولن تكون الزوايا والطرق الصوفية بمعزل عن هذه التحولات الكبرى، ليس فقط عبر رفض التحول إلى لجان مساندة مدفوعة الأجر لهذا المرشح أو ذاك، وإنما التخلص نهائيا من بعض الانحرافات العقائدية التي لحقت بها.
لقد تأخرت الزوايا والطرق الصوفية تاريخيا عن الالتحاق بركب الثورة المسلحة بالأمس ضد الاستعمار الفرنسي، الذي استعملها لتنويم الجماهير وكبح جماح التحرر داخلها، وها هي اليوم أمام فرصة تاريخية جديدة، لا ينبغي لها أن تضيعها، للالتحاق بالثورة الشعبية من أجل الحريات والديمقراطية، وتبييض صفحتها من إرث الفترة البوتفليقية البائس.
إنها فرصة لتصحيح المسار الخاطئ، ليس في دنيا السياسة فقط، حيث لا تفقه فيه هذه المؤسسة الدينية العريقة الشيء الكثير، وإنما في دنيا العوالم الروحية التي هي من صميم اختصاصها، بأن تفند الاتهامات الباديسية والسلفية بكونها محاضن لتفريخ الدروشة، إلى ابتكار دور إصلاحي يليق بمقامها، بأن تفكر في تقديم لطلبة العلوم الشرعية إسلاما حيويا، يتماشى مع العصر الذي نعيشه، وليس إسلاما جافا يعيش على ركام البدايات الأولى لهذا النسيج قبل عشرة قرون من الآن.
"دكتوراه" في درجة الصفر.. مأساة شهادة عليا بالجزائر
قصر الرئاسة بتونس والعوام.. أنسنة أم تجريف للوعي الديمقراطي؟
حول "المرجعيات الفكرية" لمرشحي الرئاسة الجزائرية