بدأ حكم العسكر في مصر في الخمسينيات من القرن الماضي، في عام 1954م، ومنذ ذلك الحين وهؤلاء الحكام العساكر يرتكبون الموبقات. وفي هذه العجالة سأوضح باختصار ما فعله هؤلاء في مصر، وما لم يفعلوه.
فقد يظن البعض أن جميع جرائم العسكر في مصر تتلخص في أعمال إجرامية ارتكبوها، أو في خيانات اقترفوها، والحقيقة أن جرائمهم تشمل الفعل.. وعدم الفعل.. أي أنها تشمل جرائم إيجابية.. وجرائم سلبية!
ونبدأ اليوم بجرائم فعلها نظام العسكر..
* * *
أولا: ما فعله العسكر في مصر
لا يمكن أن نحصي جرائم النظام العسكري في مصر في مقالة، أو مقالتين، أو عشرة مقالات؛ لأن تلك الجرائم من ناحية الكم تملأ كتبا وأسفارا، ومن ناحية الكيف تصل إلى عمق العمق!
لذلك سأحاول تلخيص جوهر الجرائم التي ارتكبها هؤلاء الخونة!
إن أكبر جريمة ارتكبها هؤلاء هي "إفساد الإنسان"!
لقد كان هؤلاء دائما وأبدا، في جميع عصورهم، بكل مؤسسات الدولة، وبكل إمكانياتهم الناعمة والخشنة.. يفسدون القيم الأساسية للمجتمع. لذلك تم إفساد جميع المؤسسات التي يمكن أن تحافظ على الإنسان حرا، مستقيما، محترما.
لقد أصبح الوضع في مصر (منذ عشرات السنين) يدعو إلى الرثاء.. إنه بلد يستحيل أن يعيش فيه إنسان "محترم" دون أن يتلوث، فلا يمكن أن تُقضى فيه مصلحة أو يُنجر فيه أمر (صغيرا كان أو كبيرا) دون رشوة أو فساد أو تجاوز، ومع مرور الوقت تعوّدنا جميعا على هذا الأمر، واستمرأناه، وأصبحنا لا نكاد نجد غضاضة في التعايش والتعامل مع هذا الانحراف الذي نمارسه يوميا.
وظل الوضع يزداد سوءا، وينحدر.. حتى أصبح المجتمع المصري اليوم بركة وحْل كبيرة.. ويريد النظام أن يتمرغ الجميع فيها كالخنازير.. فترى معارك المجتمع من نوعية رخيصة.. راقصة تتعارك مع محام بذيء، ولاعبو كرة يتساببون، ومذيعون يسبون المعارضين.. تسريبات جنسية.. فضائح على الهواء.. جهر بكل ما هو صادم لمعتقدات الناس.. حطّ وتحقير لكل ما ومن يحترمه الناس (بالحق أو بالباطل).. تهميش لجميع المؤسسات التي يمكن أن تكون ضابطا ما لسلوك البشر (المدرسة، القبيلة، المسجد، الكنيسة، النادي، النقابات، الأوقاف.. الخ)، وغير ذلك من مظاهر الانحطاط العلني.. وما خفي كان أعظم!
ستجد أن الدولة أمّمت كل شيء.. سرقت الأوقاف كلها وضمتها لوزارة الأوقاف لكي تتحكم في المجتمع، لكي تخصي الأمة، وتحرم الناس من تمويل مشاريعهم بأنفسهم.
أمّمت التعليم، والإعلام، والنقابات، والأحزاب، ولم تترك شيئا.. حتى القبائل، ورؤساء العشائر.. عمدة القرية.. شيخ البلد.. رؤساء الجامعات.. عمداء الكليات.. رؤساء الأقسام.. اتحادات الطلبة.. كل ذلك أصبح يدار من مكاتب أجهزة الأمن، ولا يتم تعيين أي منهم إلا بتزكية مخبر.
ومن خلال ذلك وبالتدريج قلبت قيم المجتمع.. أصبح الصدق مهلكة، والكذب منجاة، وأصبح النفاق والتملق والخيانة والغش هي السبيل القويم لتحقيق أي إنجاز في الحياة.
* * *
لكي يتم تدمير الإنسان كان لا بد من تدمير التعليم، وكانت البداية بالأزهر، والكتاتيب.
وبعد ذلك تدمير منظومة التعليم العام.. وتلا ذلك تدمير الجامعات.. حتى أصبح التعليم اليوم بعد سبعة عقود من حكم العسكر لا يمنح أكثر من ورقة تسمى شهادة، أما العملية التعليمية ذاتها فهي فارغة من أي مضمون.. وغالبية دول العالم لا تعترف بالمؤسسات التعليمية في مصر، ولا بمخرجات غالبية المؤسسات التعليمية، بل إن غالبية الدول العربية أصبحت لا تنظر لخريجي الجامعات المصرية بأي اعتبار أو احترام، كما كان الأمر منذ عقود قليلة.
وفي الوقت نفسه هجمت الدولة على المؤسسات الدينية بكل شراسة، فأمّمت المساجد بالتدريج، حتى أصبح فرّاش المسجد يحتاج إلى تقرير أمني لكي يحظى بفرصة عمله في هذا الموقع "الحساس"!
وفي الوقت نفسه استولت الدولة على جميع وسائل الإعلام استيلاء تاما، وبدأت ببث منظومة قيم أخرى.. لا علاقة لها بالمجتمع وقيمه.. منظومة قيم تحول الناس إلى عبيد..
ثم الثقافة بكل ما فيها.. من مسرح وسينما وشعر وفن تشكيلي وغيره.
تلا ذلك منظومة الصحة.. ثم غير ذلك من مؤسسات المجتمع..
لقد قتل حكم العسكر جميع مؤسسات المجتمع الفاعلة.. وترك المجتمع بلا أي وسائل للدفاع عن نفسه.. كل ذلك خشية أن تقوم تلك المؤسسات بأي دور في مقاومة الظلم.. وأصبح الفرد، والأسرة، والمجتمع، والجماعات.. كلها بلا قيم.. وبلا مؤسسات تحمي القيم أو تدافع عنها ضد أي هجمة من الداخل أو الخارج.
هذا باختصار شديد ما فعله حكم العسكر في مصر.. لقد سخّروا كل الإمكانات من أجل تدمير قيم الفرد والجماعة.. القيم التي يُجمع عليها المصريون.. وتحولهم إلى شعب متحضر.. يعرف دوره الحضاري في الحياة.. القيم التي يتعلمها كل جيل ويورثها للأجيال التي تليه.. كل ذلك تم تدميره.. عمدا.. مع سبق الإصرار والترصد!
إن جريمة تدمير الإنسان أكبر من أي خسارة اقتصادية، أو هزيمة عسكرية، أو نكسة سياسية.. أكبر من أي تدهور من أي نوع في أي مجال من المجالات..
بقيت كلمة أخيرة لا بد منها.. وهي أن الأمة المصرية قاومت، ونجحت إلى حد كبير في الحفاظ على كثير من ثوابتها، ونجحت كثير من الأسر المصرية الأصيلة في توريث أخلاقها ومبادئها وأفكارها إلى الأجيال اللاحقة.. وهو ما أثبتته ثورة يناير، حين امتلأت الميادين بالشباب قبل الشيوخ، وحين رأينا كيف أنه بعد ستة عقود من الاستبداد المدمر.. ما زال هناك من يقف في وجه المدرعة متحصنا بإيمانه بهذا الوطن.
موقع الكتروني: www.arahman.net
حذارِ.. مصر تحت عجلات القطار.. أحداث كاشفة (30)