30 قتيلا هي الحصيلة شبه النهائية للحادث الذي وقع على أحد الطرقات الجبلية بالشمال الغربي التونسي، يوم 1 كانون الأول/ ديسمبر 2019. ولكن الحصيلة الأبرز للحادث هي كشف وهن الدولة ووهن نخب الدولة التونسية؛ التي جاء هذا الحادث ليفضحها ويكشف استهانتها بالناس وبالوطن. لقد شهد المكان حادثين سابقين الأول، كان سنة 2014 والثاني سنة 2017. لم تكن الحصيلة موجعة، ولكن الطريق ظل على حاله، لم يطور ولم يجسر الوادي العميق الذي انقلبت فيه الحافلة.
في كل الحوادث كان مسؤولون رفيعو المستوى ينتقلون على عين المكان ويجاملون السكان وتنطلق المواقع الاجتماعية بالنواح والنقد، ثم يخمد كل شيء ونعود إلى نسيان الشمال الغربي التونسي حتى موعد انتخابات أو موعد حادث، أو لجلب خادمات لمنازل النخبة. فالشمال الغربي خزان الفقر واليد العاملة الرخيصة بقرار الدولة، وليس مثل هذا الحادث إلا دليل من أدلة كثيرة.
وضع تاريخي موروث
الشمال الغربي خزان مياه تونس وخزان الحبوب تعامل معه الاستعمار الفرنسي على هذا الأساس، وواصلت دولة بورقيبة الأمر، فنقلت ثقل الدولة الاقتصادي عبر التصنيع والسياحة والخدمات إلى المنطقة الساحلية، فصارت منطقة جذب سكاني وخدماتي. فمياه سدود الشمال الغربي تصل حتى منطقة المهدية لتمويل السياحة بالمياه، في حين تبقى ساكنة الشمال بلا مياه صالحة للشرب، فأقفر الشمال الغربي من سكانه، إذ نزل كثير منهم من جبالهم بحثا عن رزق قليل. وعبر تاريخ الدولة الحديثة اختل التوازن السكاني والتنموي، بما كشف عن خطة مقصودة تحويل الشمال الغربي إلى خزان من العاطلين عن العمل ضعيف التأجير لمصلحة الجهات النامية على طول المنطقة الساحلية.
لم يتحدث أحد عن خطة استثمارية تعيد للشمال قدرته على المساهمة في التنمية الشاملة، وقد سارت حكومات ما بعد الثورة، رغم ما نص عليه الدستور الجديد من تمييز إيجابي
في السنوات الأخيرة تحول الشمال الغربي إلى منتزه طبيعي لسكان العاصمة والجهة الساحلية؛ يزورونه في العطل وعند نزول الثلوج، حيث يتبرعون لمن بقي به من سكان بالأغطية وببعض الطعام. ولم يتحدث أحد عن خطة استثمارية تعيد للشمال قدرته على المساهمة في
التنمية الشاملة، وقد سارت حكومات ما بعد الثورة، رغم ما نص عليه الدستور الجديد من تمييز إيجابي لصالح المناطق المفقرة وفي مقدمتها الشمال الغربي التونسي، على وتيرة من سبقها، فلم تتقدم خطوة واحدة في اتجاه تطبيق المبدأ المذكور، فلم يزد الحادث الأخير إلا أن كشف أن هذه الحكومات استمرار لمن كان قبل الثورة.
لعبة نفوذ جهوي أقوى من كل الحكومات
الوعي بفقر منطقة الشمال ليس جديدا، ولكن تنميته ليست بمقدور حكم بُني على الجهويات. يمكن التذكير ببعض الوقائع التي تكشف لعبة النفوذ. ففي أوائل الثمانينيات (حكومة مزالي) تم إنشاء مطار في طبرقة ومنطقة سياحية لتحويل مدينة طبرقة إلى مقصد سياحي، وتم تهييئ منطقة هناك، لكن قطب السياحة الساحلية (نابل والحمامات وسوسة والمنستير) كان من القوة بحيث حيَد مطار طبرقة ومنطقتها السياحية إلى حدها الأدنى، وفرض هذا اللوبي القوي مطار النفيضة بمنطقة سوسة فصار في الساحل مطاران متجاوران، فضلا عن مطار جربة الذي يمول الساحل الجنوبي. فلم يبق لطبرقة ومنطقتها إلا السياحة الداخلية الفقيرة، حيث يزورها المتزوجون الجدد من الفقراء لأيام معدودة.
وعندما بدأ الحديث عن إنشاء ميناء مياه عميقة طرح اسم طبرقة، وتذكر المؤرخون أنها كانت ميناء لجنوة الإيطالية لتصدير القمح منذ القرن السادس عشر. ولا يزال البرج الحربي شاهدا على ذلكن ثم بدأ الميناء يزحف شرقا، فإذا هو في بنزرت، ثم يزحف فإذا هو في النفيضة (ولاية سوسة) قرب المطار الدولي، حيث زرعت المناطق الصناعية من حول المطار والميناء (قيد الإنشاء)، وإذا أبناء الشمال الغربي ينزلون هناك بحثا عن عمل.
لا يمكن أن يكون هذا عفويا، بل هي لعبة نفوذ تعرف كيف تجذب المال العام إلى حيث تكون أول مستفيد. إنها حالة من عجز الدولة (والحكومات) في لعبة النفوذ الجهوية التي قامت عليها دولة بورقيبة منذ التأسيس ولا تزال مستمرة فالقوة تضاعف نفسها وتضعف الآخرين.
هي لعبة نفوذ تعرف كيف تجذب المال العام إلى حيث تكون أول مستفيد. إنها حالة من عجز الدولة (والحكومات) في لعبة النفوذ الجهوية التي قامت عليها دولة بورقيبة
لقد كان الوعي بكل هذا حاضرا في صياغة دستور ما بعد الثورة، لذلك نص على الميز الإيجابي من أجل خلق توازن جهوي. ولكن لعبة النفوذ ما زالت مستمرة ولم تتغير الأوضاع بما يعيدنا إلى نقاش جذري آخر: هل حررت الثورة الدولة من اللوبيات؟ إنه سؤال في مستقبل الثورة.
لوبيات المال تعبث بنخب الأيديولوجيا
هذه الصورة تزداد وضوحا كل يوم، وفي
معركة تشكيل الحكومة تواصل لوبيات النفوذ المالي والجهوي الضحك على حزيبات الأيديولوجيا وتصب الزيت على نار خلافاتها، بما تملكه من إعلام موجه.
تعتقد النخبة التي نفخت الحرية أوداجها الخطابية أنها واصلة إلى الحكم، وأنها قادرة على التعديل بالخطابة وحدها. تمنحها لوبيات المال منابر للكلام فتتمتع بذلك، وتعتقد أن الوضع قد تغير على الأرض كما تغير في الخطاب، لكنها تناقش ميزانية مبنية على خدمة اللوبي المالي والجهوي نفسه.
كان يمكن لهذا الحادث أن يقلب النقاش قلبا كاملا، فتعاد صياغة الموازنة على أساس تحقيق الميز الإيجابي، فتوجه موازنة التجهيز والصحة للشمال الغربي بما يؤسس لتوجه تعديلي يدعم في موازنات قادمة. لكن لا الرئيس الذي زار وواسى، ولا رئيس البرلمان الذي قرأ الفاتحة مرات كثيرة، ولا بقية الكتل البرلمانية زادت على خطاب التعزية والنواح الإعلامي.. لم يفكر أحد ممن هو في موقع المسؤولية في أن مثل هذا الفاجعة يمكن أن تكون بداية لإعادة تأسيس العدالة الجهوية كما طلبت بذلك الثورة.
الفاجعة الحقيقية هي النخبة المتقدمة للحكم في قادم السنوات. فهي لا تملك في ما نرى أية رؤية سياسية ولا اقتصادية، وليس لديها تصور لما يمكن أن يؤدي إليه تكرار الفواجع
إن الفاجعة الحقيقية هي النخبة المتقدمة للحكم في قادم السنوات. فهي لا تملك في ما نرى أية رؤية سياسية ولا اقتصادية، وليس لديها تصور لما يمكن أن يؤدي إليه تكرار الفواجع على الطرقات وفي المشافي الفقيرة في الشمال، وفي جهات كثيرة ستنبهنا حوادث أخرى إلى أنها سقطت من غربال بورقيبة ومن غربال ابن علي، ولم يفلح خطاب الثورة في احتضانها بعد إهمال.
ليس لدينا قدرة كافية على قراءة المستقبل، ولكننا واثقون من أن النخبة الظاهرة في المشهد السياسي الراهن لن تخرج عن طوع لوبي المال الجهوي المسيطر على مقدرات البلد، ولذلك ننتظر حوادث أخرى ومناحات أخرى، ونتابع كيد الحزيبات لبعضها البعض في التلفزة التي يمولها نفس اللوبي. وفي نهاية هذا الأسبوع (الأول من كانون الأول/ ديسمبر) سيتم إطلاق بالون إعلامي يصرف أنظار النائحين على الضحايا الثلاثين؛ إلى نقاش في جواز ذهاب المرأة الحامل إلى طبيب النساء. فهذه نقاشات منقذة للنخبة، ولدى الخطباء الأفذاذ جمل جاهزة تدربوا عليها منذ أيام الجامعة.
ما زال أمام هذه البلد الكثير ليدفعه حتى يصفي حكم بورقيبة وأطفال بورقيبة.