المرجع الديني علي
السيستاني، كان في مثل هذا الموقف من قبل، فقبل خمس عشرة سنة، بعد أن أسقط الغزو
الأميركي للعراق نظام صدام حسين، ساعد المرجع الديني الأعلى في البلاد، على توجيه
شعبه نحو نظام حكومة تمثيلية، والآن، وبعد أن ساعد بنفسه على إسقاط أحدث نسخة من
تلك الحكومة، يدرك السيستاني أن أتباعه يتطلعون إليه مرة أخرى، طلبا للتوجيه
السياسي، ولكنه لا يستطيب تلك المسؤولية، فالسيستاني، البالغ 89 سنة، يمثل المدرسة
«الصوفية» في المذهب الشيعي، التي ترى أنه لا ينبغي لكبار رجال الدين الانخراط في
السياسة، وخلال معظم حياته حاجج السيستاني ضد فكرة «ولاية الفقيه»، أو حكم رجل
الدين، التي يدعمها الخميني منذ ثورة 1979.
بيد أن الظروف السياسية الصعبة في بغداد، قد
تفرض على السيستاني لعب دور أكثر نشاطا مما يرغب فيه.
السيستاني قال: إن العراق يحتاج إلى انتخابات
جديدة، وإصلاحات دستورية شاملة، ولكنه كان حذرا، وحرص على تحاشي الإشارة إلى
تغييرات معينة، فتلك، في رأيه، مهمة الطبقة السياسية في البلاد.
ولكن هنا تكمن المشكلة الأكبر، فالساسة
العراقيون لم يُظهروا اهتماما كبيرا بالتغيير، والسيستاني نفسه يتحمل بعض
المسؤولية عن الاختلالات، التي بات يعاني منها برلمان البلاد، ذلك أن كل حكومة منذ
سقوط صدام كانت تنال مباركته، وكل رئيس وزراء يطلب دعمه ويحصل عليه، ورئيس الوزراء
الأخير، عادل عبد المهدي، وهو رجل لا حزب له ولا ناخبين، ما كان يستطيع الحصول على
المنصب، من دون مباركة السيستاني.
ورغم أن العراقيين قد يلومون السيستاني، على
نحو معقول عن عدم كفاءة نخبتهم السياسية وفسادها، إلا أنه يبدو أنهم يميلون إلى
ترجيح حسن النية، على الأقل نظرا لنزاهة الرجل الشخصية وهيبة مكتبه، الذي يُعد
الأعلى في المذهب الشيعي، غير أن صبر المحتجين الذين يُبقون على الضغط على الحكومة
منذ أسابيع - متحديين الرصاص والغازات المسيلة للدموع والهراوات - قد ينفد مع
السيستاني، إن ظل في «منطقته المريحة» على الهامش.
ففي مشهد بغداد السياسي، الذي تطبعه الفوضى
والتنافس والاقتتال، وحيث تستخدم الأحزاب الميليشيات على نحو روتيني، من أجل
التأثير والنفوذ، تستطيع القوى الخارجية النافذة في العراق، استدعاء نطاق واسع من
المجموعات المسلحة، وضمن هذا الإطار يأتي هادي العامري، الذي يقود «منظمة بدر»،
التي تعد حزبا سياسيا، وشبه عسكري في الوقت نفسه.
المنافس الوحيد للعامري على السلطة السياسية،
هو رجل الدين مقتدى الصدر، الذي اختار التموقع كوطنيٍ عراقيٍ، الرجلان كلاهما
شيعيان، ولكن مؤهلات الصدر الوطنية تمنحه بعض الدعم بين الأقلية السُنية، التي
ترتاب في علاقات العامري الإيرانية، ميليشيا الصدر هي «جيش المهدي»، الذي يعوض
بعدده ما يفتقده من حيث القوة النارية والانضباط.
من الناحية السياسية، الصدر والعامري
متعادلان، وكان السيستاني قد تحاشى في السابق دعم أي منهما، مؤْثرا عبد المهدي،
باعتباره مرشحا توافقيا، ولكنه كان اختيارا كارثيا، ذلك أن عبد المهدي لم يكن لديه
الدهاء السياسي لإدارة برلمان منقسم، ولا المهارات الإدارية لإدارة البلاد.
والواقع، أنه حتى في حال لبّى البرلمان دعوة
السيستاني إلى إصلاحات دستورية، فسيحتاج العراق إلى زعيم مؤقت، وهكذا، يواجه
السيستاني خياري الصدر والعامري من جديد، والحال أن دعم زعيم «منظمة بدر»، من شأنه
أن يرقى إلى وضع العراق تحت السيطرة الخارجية، ما يمثل خيانة لتطلعات المحتجين،
والحال أنه رغم أنه ينحدر من أصول غير عراقية، إلا أن السيستاني كان مواليا للعراق
قولا وفعلا.
ولكن الانحياز إلى الصدر لن يكون مقبولا
بالنسبة للسيستاني أيضا، ذلك أن الرجل الشاب لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وفضلا عن
ذلك، فإنه لم يقدم أي رؤية منسجمة لما ينبغي أن يكون عليه العراق، ناهيك عن مخطط
لإصلاح مشاكل البلاد السياسية والاقتصادية، وليس هناك سبب للاعتقاد بأنه سيكون –
أو أي شخص من حزبه – مديرا جيدا، ولا سيما في فترة اضطرابات وطنية.
وعليه، فإن السيستاني سيختار على الأرجح
الانتظار، لحين ظهور مرشح توافقي آخر، ولكن هذا الخيار ربما لم يعد متاحا الآن،
ذلك أن المحتجين ليسوا في مزاج، يقبل بعملية سياسية طويلة ممتدة، والأرجح أنه لم
يتبق في بغداد سياسيون بسمعة طيبة.
عن صحيفة
الاتحاد الإماراتية