انشغلت حركة الإصلاح العربي طيلة عقود الاستقلال في الدولة الوطنية في العالم العربي، ببناء منظومة الدولة بمعناها الغربي الحديث، على مستوى الشكل، بينما ظلت روح هذه الدولة بمعناها القانوني والدستوري والسياسي والفكري غائبة أو حلما مؤجلا، عملت أجيال ما بعد معركة التحرير الوطني وإنجاز الاستقلال على استكماله إلى أن جاءت ثورات الربيع العربي التي انطلقت قبل 9 سنوات من تونس، وامتدت إلى مختلف الأقطار العربية، لتعيد سؤال الدولة بمعناه الدستوري إلى الواجهة.
ومع أن الدارسين لتاريخ التحولات السياسية التي تعرفها المنطقة العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، يركزون في تأريخهم للثورات العربية الحديثة، على المطالب السياسية، فإنهم لا يغفلون أن أدوات التغيير التي استند إليها الحراك الثوري في العالم العربي، متعددة منها ما هو سياسي وما هو إعلامي وما هو حقوقي وما هو فكري وثقافي بشكل عام، وما هو اقتصادي واجتماعي.
وفي غمرة انشغال العرب بالصراع السياسي على رأس الدولة وما انجر عنه من تداعيات أمنية واقتصادية واجتماعية، كان الفنانون يخوضون معارك ضارية في الدفاع عن قيم الإبداع الفني الأصيل، ليس باعتباره جزءا من حرية التعبير والإبداع، وإنما أيضا بما أنه الفضاء الإنساني الأقرب للتعبير عن هموم الإنسان بغض النظر عن خلفيته السياسية والأيديولوجية والأمضى في الوصول إلى جوهر الذات البشرية، حتى غدا الفنان واحدا من قيادات التغيير.
الإعلامي السوداني خالد سعد، يفتح في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، سؤال الموسيقى والفن ودورها في إحداث التغيير والحفاظ على وحدة السودان على الرغم من الخلافات السياسية بين الفرقاء التي تجاوزت كل الحدود.
كلية الموسيقى والدراما.. تاريخ وأهداف
فيما تعجز المؤسسات السياسية حتى الآن في صياغة هوية فكرية وسياسية موحدة للسودانيين، تعمل جهات أخرى مثل كلية الموسيقى والدراما أشهر المؤسسات المتخصصة في البلاد، على توحيد وجدان السودانيين بمختلف ثقافاتهم وتعريف العالم من حولهم بها.
ومنذ أن كان معهدا متخصصا فقط عام 1969م تابعا لوزارة الثقافة والإعلام تحت مسمى (معهد الموسيقى والمسرح والفنون الشعبية)، عكف المشتغلون بالفنون السودانية على النهوض بالحركة الفنية والثقافية من خلال تدريس علوم الموسيقى والدراما في شقيها النظري والتطبيقي، واضعين في الاعتبار أهمية العلوم فى بناء وتكوين الشخصية السوية والمجتمع المتوازن والمساهمة في استراتيجية تحقيق التنمية المستدامة في السودان.
وفي ظل حالة الهشاشة الملازمة للأوضاع السياسية في البلاد، وتفشي الجهويات والأفكار المتصارعة، تسعى الموسيقى والدراما إلى صناعة هوية مشتركة للسودانيين في مختلف الجبهات.
وهذه الجهود ليست وليدة اللحظة الثورية الماثلة الآن في البلاد، فقد بدأت هذه المهمة منذ إنشاء المعهد وانتقال تبعيته فى العام 1976م إلى المجلس القومي للتعليم العالي تحت مسمى (معهد الموسيقى والمسرح) الذي تم ضمه إلى جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا فى عام 1990م وتم تغيير المسمى إلى (كلية الموسيقي والدراما) 1998م.
وأسهمت الكلية خلال تاريخها في الحركة الفنية في الإذاعة والتلفزيون والمسرح، واتحاد الفنانين السودانيين للغناء والموسيقى، وفي تأهيل أساتذة الموسيقى والدراما في مدارس السودان والدول العربية والإفريقة وتأهيل كوادر فرق الموسيقى بالقوات العسكرية، كما أسست معهد الفنون بجيبوتي 2004م.
وحسب الدكتور أحمد محمد عثمان ادريس فإن كلية الموسيقى والدراما منذ أن كانت تتبع لمعهد الكليات التكنولوجية تعمل بكل جد واجتهاد على تخريج الموسيقيين المهرة والدراميين عبر بوابة هذه الكلية، ويقال إن هناك طلابا خريجين من دول تشاد (عبد الله التشادي) والصومال وجيبوتي وأثيوبيا وأريتريا، أي الدول المجاورة للسودان وما حولها رغم أن هناك مدارس وكليات متخصصة للموسيقى والدراما بكثرة في دولة أثيوبيا، وبخاصة دراسات التفصيل أو عالم الأزياء والرقص، بيد أن كلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان سجلت تواجدا كبيرا في عالم الموسيقى وأصبحت البوابة الأولي لجميع طلاب إفريقيا الذين يرغبون أو ينهلون في علوم الموسيقى والدراما بدلا من الذهاب إلى أوروبا وأخذ اللون الغربي، فالسودان أقرب لهم من حيث اللون واللغة كما لدى السودانيين العديد من التماذج والتداخل في الألوان الموسيقية الأفريقية والعربية.
ويلاحظ الدكتور عثمان أن كلية الموسيقى والدراما كانت في الزمن السابق غير محببة للطلاب أما الآن فالوضع اختلف كثيرا، تطورت العلوم وأصبح هناك ارتياد كبير نحوها، حيث توافدت أعداد كبيرة نحوها في مختلف التخصصات الموسيقية وعلوم الدراما المختلفة، وما مجموعة أو فرقة طلاب كلية الموسيقى إلا دليل على نجاح تلك الكلية ووصولها للجميع بعد أن كانت حكرا لأصحاب الذوق الفني أو الموسيقى أصبحت للمبتدئين في عوالم التذوق الموسيقي.
مفاهيم مغلوطة
لكن عبد الحفيظ علي الله رئيس قسم الدرما في الكلية قال لـ"عربي21": "إن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح عند تقدير أو تقييم دراسة الفنون في أي قطر يتمثل في ماهية الغايات المرتقبة ودرجات إدراك أهميتها في الخطط الاستراتيجية للتطلعات التنموية، وهنا نجد انعكاسات الإجابة على أمثال تلك الاستفهامات في استقراء واقع كلية الموسيقى والدراما في السودان، حيث تظهر العديد من الاخفاقات في في بنية التفكير الاستراتيجي للاستفادة من هذا الآداء الأكاديمي الفعال في التطور الاجتماعي والارتقاء بالإنسان في مجالات الوعي بمتطلبات علاج القضايا السلوكية الاجتماعية".
ويشير علي الله، إلى أن دراسة الفنون ما تزال لدى العديد من القيادات السياسية والفكرية ضربا من ضروب اللهو والمتعة الذاتية، وهي بذلك توضع في خطط واحتياجات كمالية وليس ضرورية، ما يتسبب في مشكلات عديدة لا تقف عند الكوادر العاملة أكاديميا وإبداعيا أو في المناهج والبنيات التحتية للتدريس والمنابر الثقافية الفنية، وإنما تتخطى كل ذلك إلى خلل في محتوى مساحات الإدراك بالهموم الاجتماعية والقضايا الفكرية والحياتية.
ويرى علي الله أن الفنون هي وسيلة التعبير الفعالة لمكنون هموم وتطلعات المجتمعات وعبرها يتم رصد الإخفاقات والنجاحات المرتبطة بالحياة المعاشة واستقراء ما ينبغي عليه أن يكون، موضحا أن الجهل بمفهوم الفنون أو تهميشها بحكم قياسها بالاحتياجات الأولية سوف يفضي إلى ما هو أكثر درجات الإخفاق في واقع الفن السوداني الآني.
رغم النقد الذي يوجهه علي الله للرؤية التي يتعامل بها أصحاب القرار السياسي بشأن الفنون، إلا أنه لا ينكر الدور الذي تقوم بها الكلية في رعاية المواهب في مجالات الموسيقى والدراما، والتواصل مع المؤسسات ذات الصلة بالفنون والعلوم الإنسانية داخليا وخارجيا، وإقامة الندوات والورش وحلقات النقاش حول ثقافة فنون الموسيقى والدراما.
ومن بين أهم الأدوار التي تقوم بها الكلية في المجتمع السوداني إقامة دور للفنون والعلوم الإنسانية الموسيقية والدراما، وتأهيل كوادر متخصصة في فنون وعلوم الموسيقى والدراما، وتنمية القدرات الإبداعية للمواهب في مجالي الموسيقى والمسرح، فضلا عن المساهمة في النهوض بالحركة الفنية والثقافية في السودان والاهتمام بالتراث السوداني الثر والمتعدد وقضايا الفنون الموسيقية والدرامية، إلى جانب تأسيس علاقات التبادل الثقافي والفني والأكاديمي مع الموسسات النظيرة محلياً وخارجياً وتعميق القيم الجمالية المثل العليا مع التركيز على التأصيل.
نجحت فيما فشلت فيه السياسة
وفي مقابلة مع "عربي21" قالت الدكتورة رجاء موسى رئيس قسم الموسيقى: "إن الكلية حققت ما فشلت عنه السياسة، إذ أظهرت الحميمية التي يتمتع بها طلاب الكلية وخريجوها من مختلف مناطق السودان هوية مشتركة أسهمت بفاعلية في التعايش السلمي وتحقيق الأمن في السودان".
ورأت أن مؤشرات عديدة تؤكد هذا التطور أبرزها ازدياد عدد الطلاب في الكلية بخاصة الموسيقى منذ الجيل الأولى من الموسيقيين القليلي العدد إلى 107 طالب يدرسون الموسيقى الآن في الكلية، موضحة أن الإسهامات التي قدمها الرعيل الأول ساهمت بدور كبير في تغيير المفاهيم الاجتماعية والثقافية والفكرية التي كانت تسيطر على أذهان السودانيين في السابق.
وأشارت إلى تجربة كورال الكلية التي تحظى بشعبية جارفة في السودان، ونجحت في توحيد وجدان السودانيين بمختلف ثقافاتهم وتعريف العالم من حولهم بفنون السودان الآدائية، بفضل جهود حثيثة من المخرج الطيب صديق والمؤلف الموسيقي البارع الصافي مهدي.
وذكرت أن الجيل الأول من الموسيقيين في السودان كانوا منظرين يحملون أفكارا ساهمت في نشر الوعي الاجتماعي والادراك لدى غالبية السودانيين، ومن بين هؤلاء المغني الراحل مصطفى سيد أحمد الذي قدم خطابا إبداعيا جديدا في الساحة الفنية السودانية.
وفي دراسة عن أهمية التفكير الموسيقي في التغيير، يؤكد المؤلف الموسيقي والمغني علاء الدين سنهوري أن المغني الراحل مصطفى سيد أحمد كمثقف وكثوري طليعي وفي الأصل كفنان ملتزم عبر عن العديد من المؤشرات البيئية والقيمية والثقافية التي شكلت شخصية الفنان مصطفى في سنين مبكرة وشحذت حساسيته الفنية والمتمردة والرافضة.
وأكدت دراسة سنهوري على صفة المثقف المنتج والفاعل والملتزم، واستعرض موقف مصطفى كمغني وكمثقف من مجتمعه وقضاياه الملحة، وذلك من خلال إعادة قراءة إجابات مصطفى على أسئلة فكرية عميقة ليؤكد من خلال مجمل إجاباته بأن الموسيقي يعمل بوعيه بما هو جمعي على اختيار الأغنية منفذا للتعبير عن قلقه وأسئلته وطروحات الحس النقدي لديه حول قضايا لحظة مجتمعه.
وأشار إلى موقف المغني والموسيقي من الهوية، ورأى أن المشروع الغنائى للفنان مصطفى راهن على الكلمة (في فكرها مضمونا ومغايرتها شكلا) كأداة تغيير ليصوغ عبر الفعل الغنائي خطابا لمثقف يحمل هموما ويخوض معركة في سبيل العمل على إزالة المعوقات التي تقف في وجه التطور والعقبات التي تحول دون تقدم المجتمع.
ويُعد الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد أحد المنظرين البارزين في مجال الموسيقى والغناء في السودان، وكان واحدا من رواد كورال الموسيقى.
وحسب الدكتورة رجاء موسى في حديث لها مع "عربي21" فإن التنظير الذي تقوم به كلية الموسيقى والدراما في الفضاء العام عبر الورش والمهرجانات الجماهيرية، يعتمد على مناهج دراسية وتعليمية يتلقاها طلاب الكلية تشمل الدراسات السودانية والثقافات المحلية والحضارات القديمة إلى جانب الموسيقى الفلكلورية والمدرسة الغربية والشرقية.
وأشارت إلى أن للكلية فلسفة أكاديمية تقوم على تخريج طلاب بجودة عالية في الفكر والآداء والتنظير الأكاديمي، ما مهد لصناعة هوية موسيقية واحدة للسودانيين تمثلت في السلم الموسيقي الخماسي الذي ينتشر في كافة أنحاء السودان مع بعض الاختلاف لدى بعض القبائل في غرب السودان المحاذية للحدود مع الغرب الإفريقي.
وأكدت على التأثير الاجتماعي للكلية، حيث قاومت بإنتاجها الفكري والثقافي، الفكر الذكوري التقليدي لانخراط المرأة في مجال الموسيقى، وبالفعل صارت الكلية تستقبل عشرات الراغبات في المجال الموسيقي التخصصي، وكانت نتيجة هذه المشاركات تكوين أول أوركسترا نسائية عام 2003 ـ 2004م.
السودان.. جدل حول الإعلام والثورة والانتقال الديمقراطي
تونس.. الشعر الشفوي بين التعبيرية المقاومة والتجاهل الأكاديمي
هل يعكس المسرح السوداني مسارات الثورة وأحلام الثوار؟