لا جدال في أن الحملة العسكرية الحالية التي تنفذها قوات النظام السوري بدعم من القوات الجوية الروسية منذ 16 كانون أول/ ديسمبر الماضي، والتي تستهدف مناطق المعارضة شمال غرب
سوريا، ليست سوى فصل جديد من مشهد معركة منتظرة في
إدلب، لكنها بالتأكيد ليست بداية الحرب الشاملة النهائية، رغم كثافة القصف العشوائي وسياسة الأرض المحروقة، التي باتت سمة مميزة معتادة لقوات الديكتاتور السوري وحلفائه الروس والإيرانيين، في سياق ممارسة نهح سياسي دموي واستراتيجية منظمة للسيطرة على مناطق المعارضة، من خلال قصف المستشفيات والمدارس والأسواق.
فالمعركة النهائية في إدلب يصعب تنفيذها دون توافقات تركية روسية ما تزال في طور النقاش. ولا شك في أن الخلاف الناشئ بين البلدين حول ليبيا سرّع من وتيرة التصعيد شمال غرب سوريا، لكنه ليس المحرك الأساسي، ولذلك سنشهد هدنة أخرى وتفاهمات جديدة.
أفضت الحملة العسكرية الجديدة شمال غرب سوريا إلى سيطرة القوات السورية على 46 قرية في المنطقة، وفق المرصد السوري، وباتت قريبة من مدينة معرة النعمان في جنوب إدلب؛ إذ يتعرض ريف إدلب الجنوبي منذ أكثر من أسبوعين لتصعيد في قصف تشنه طائرات سورية وأخرى روسية، يتزامن مع تقدم لقوات النظام على الأرض في مواجهة فصائل المعارضة، وتحديدا في محيط مدينة معرة النعمان، التي تُعد ثاني أكبر مدن محافظة إدلب.
وأورد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في بيان؛ أنه بين 12 و25 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، نزح أكثر من 235 ألف شخص من شمال غرب سوريا، مشيرا إلى أن كثيرين منهم فروا من مدينة معرة النعمان وقرى وبلدات في محيطها، وجميعها باتت "شبه خالية من المدنيين".
إن تحديد مصير شمال غرب سوريا عموما ومحافظة إدلب خصوصا، لا يمكن دون توافق روسي تركي، رغم أن كل من
تركيا وروسيا يبدوان على طرفي نقيض في ما يتعلق بالملفين الليبي والسوري، حيث تدعم موسكو الأسد في سوريا، فيما تقف تركيا خلف الفصائل المعارضة. أما في ليبيا فتؤيد موسكو حفتر فيما تقف أنقرة خلف حكومة الوفاق.
لكن هذا التناقض لا يضع الطرفين في حالة صدام، فقد أظهرا على مدى سنوات قدرة كبيرة على إدارة الخلافات بينهما، نظرا لمصالحهم المتضاربة إلى حد كبير في الشرق الأوسط.
وحسب مجلة "فورين بوليسي"، يواجه التعاون الروسي والتركي حدودا حقيقية، على الرغم من أن الدولتين ستستمران على الأرجح كشريكين ستكون هناك الكثير من الفرص للغرب لاستغلال خلافاتهما من قبل الولايات المتحدة. وقد يكون أسهل تلك الطرق استغلال خلاف تركيا وروسيا بشأن مستقبل محافظة إدلب السورية، فلكل من تركيا والغرب مصلحة في منع أي
هجوم عسكري روسي واسع النطاق في هذه المقاطعة؛ إذ يمكن أن تؤدي مثل هذه العملية إلى كارثة إنسانية وتدفع أعدادا كبيرة من اللاجئين نحو حدود تركيا. ومما لا شك فيه، أن العلاقات التركية الغربية شهدت تغيرا كبيرا في السنوات الأخيرة ولن يعود الوضع القديم، ومع ذلك لن تنقطع العلاقة، لأن علاقات تركيا مع
روسيا في أفضل الأحوال فضفاضة.
لا تختلف الحملة العسكرية الحالية عن الحملة السابقة التي شهدتها المنطقة المنزوعة السلاح في أرياف إدلب وحماة وحلب منذ 26 نيسان/ إبريل الماضي، عندما شنت القوات السورية بدعم من روسيا هجوما واسعا بين شهري نيسان/ أبريل وآب/ أغسطس من العام الحالي، الذي أسفر عن مقتل ألف مدني وفقا للمرصد السوري، وعن نزوح 400 ألف شخص وفق الأمم المتحدة، قبل بدء سريان هدنة في نهاية آب/أغسطس، ورغم شراسة التصعيد الحالي، إلا أن سيناريو شن هجوم بري شامل على إدلب غير مرجح في الوقت الراهن، نظرا للكلفة العسكرية الباهظة، إلى جانب الكلفة الإنسانية المرتفعة، فضلا عن الكلفة السياسية الهائلة، إذ ما تزال روسيا متمسكة بأولوية الحفاظ على علاقتها مع تركيا، وتفضل المضي قدما في مسار العملية السياسية في سوريا، والتقدم في تأسيس لجنة صياغة دستور جديد لسوريا، وأقصى ما تطمح إليه روسيا من الحملة الحالية خلال هذه المرحلة الحصول على موطئ قدم في إدلب، مقابل السماح لتركيا بتعميق منطقة سيطرتها الحالية شرق الفرات، ومن شأن الهجوم الشامل إفشال العملية السياسية.
إن مصير إدلب على الأرجح سوف يتحدد خلال الزيارة المتوقعة للزعيم الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة في الثامن كانون الثاني/ يناير 2020، ومن المؤكد أن ليبيا وسوريا سوف تشكلان جوهر التفاهمات والمقايضات، في ظل عدم اكتراث الولايات المتحده بهاتين المنطقتين وتراجع دورها. فحسب افتتاحية "واشنطن بوست"، فإن الدبلوماسيين الأتراك وجدوا أنفسهم في هذا الأسبوع يناشدون روسيا لوقف القصف، في الوقت الذي لم تعد فيه الولايات المتحدة، التي كانت تقوم بالمقايضة مع روسيا، سوى مراقب عاجز، لافتة إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حذر في تغريدة له روسيا وإيران من مواصلة قتل المدنيين في منطقة إدلب.
تقوم العلاقة بين أنقرة وموسكو على المقايضة عبر التفاهمات دون صدام مباشر، ولذلك قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين الثلاثاء الماضي، إن روسيا ستعمل على وقف الهجمات في منطقة إدلب بشمال غرب سوريا، وذلك بعد محادثات مع وفد تركي في موسكو، مضيفا أن بلاده تتوقع حدوث ذلك، وقد سافر وفد تركي إلى موسكو الاثنين الماضي لبحث التطورات في ليبيا وسوريا، ويمكن رصد نهج المقايضة والتفاهم منذ التدخل الروسي في سوريا 2015، بدءا من حلب وصولا إلى تفاهمات 22 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عندما وقع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وبوتين صفقة أخرى في سوتشي حول عملية "نبع السلام" التركية شرق الفرات ضد وحدات حماية الشعب الكردية، كان مصير إدلب على الجدول أيضا، حيث سمحت روسيا لتركيا بتنفيذ هذه العملية، لكن في المقابل حصلت روسيا على مكاسب في إدلب.
في خضم تطبيق الاتفاقية الروسية التركية بشأن المنطقة الآمنة في شماليّ شرقيّ سوريا، ظهرت تقارير تفيد بأن دمشق تخطط في بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، لشن هجوم عام على آخر معاقل المعارضة في محافظة إدلب. وقد أكد الرئيس الأسد هذه المعلومات. وحسب ديمتري منين، كانت القوات العسكرية التابعة للجيش السوري، مثل الفرقة الرابعة والفرقة الخامسة والعشرين (قوات النمر سابقا) التابعة للجنرال سهيل الحسن والحرس الجمهوري وغيرهم، تتركز على الجبهات في شمال اللاذقية وإدلب على طول منطقة سهل الغاب في شماليّ غربيّ حماة. وفي الآونة الأخيرة، وسّع الرئيس السوري موقع هذه القوات، مشيرا إلى أن كل شيء جاهز للهجوم القادم.
لا تخرج الحملة العسكرية الحالية في شمال غرب سوريا عن كونها فصلا آخر قبل المعركة النهائية في إدلب، قبل الوصول إلى المعركة النهائية. فهذه الحملة سوف تعمل على السيطرة على طريقي "أم 5" و"أم 4" الحيويين، على نحو يتيح لدمشق وموسكو انتصارا في سوريا. فأهداف النظام من الهجوم على محافظة إدلب خلال الأسابيع القليلة الماضية، حسب صحيفة "كوميرسانت" الروسية، هي وصول النظام إلى الطريق الدولي الواصل بين دمشق وحلب، والمعروف باسم "أم 5". فالعمليات العسكرية التي أطلقها النظام نهاية نيسان/ أبريل الماضي، سوف تستمر حتى السيطرة على الطريق الاستراتيجي الذي يربط بين مدينتي حلب ودمشق، وتمر أجزاء منه في ريف إدلب".
ويعتبر طريق "أم 5" من أهم الطرق لدى النظام، كونه يربط بين أهم مدينتين سوريتين هما حلب ودمشق مرورا بحمص وإدلب وحماة.
ما يزال من المبكر الحديث عن معركة شاملة على إدلب، رغم أن الأساس النظري للحملة الشاملة تضمنته تفاهمات "أستانا" و"سوتشي"، بالالتزام بالتخلص من الحركات الموسومة بالإرهابية دون تمييز بين نهجين جهاديين، أحدهما محلي براغماتي تقوده هيئة "تحرير الشام"، وثانيهما عالمي راديكالي تمثله جماعة "حراس الدين". ورغم وجود خلافات أيديولوجية ومنافسات استراتيجية بين مكونات الحالة الجهادية في شمال غرب سوريا، لكنها لا تتجه نحو الصدام؛ ذلك أن المواجهة العسكرية بين الجماعات الجهادية ترتبط غالبا بمواضعات وأجندة دولية، وذلك يتطلب صفقة مع أحد الأطراف، لكنها ما تزال بعيدة رغم سعي هيئة "تحرير الشام" لتقديم نفسها قوة سياسية بعد أن فرضت نفسها كقوة قتالية، وهي مسألة يحاول الأتراك تسويقها على روسيا التي تصر على عودة إدلب وبقية المناطق للسيادة السورية سلما أو حربا، فاتفاق سوتشي أجّل مسألة الحرب ولم يلغها تماما.
من المبكر الحديث عن صفقة نهائية بين روسيا وتركيا، وقد يشهد اللقاء المنتظر بين أردوغان وبوتين الشهر القادم، تفاهمات على أساس المقايضة، ففي نهاية المطاف ما يهم تركيا حماية أمنها القومي وتحقيق مصالحها، وتتمثل في سوريا بمنع قيام كيان كردي على حدودها مع سوريا، وضمان حصتها في ليبيا من بعد توقيع اتفاق الحدود البحرية والأمن مع حكومة الوفاق الوطني الليبية.
وحسب بعض التقارير، تعمل تركيا على تجنيد مجموعات وأفراد في إدلب قد يتم نقلهم إلى ليبيا، وهو سيناريو يحدث بالفعل وفقا لبيان صادر عن بوتين في تموز/ يوليو الماضي، عندما عبر عن قلقه بشكل خاص من تسلل المقاتلين من منطقة إدلب إلى ليبيا، في الوقت نفسه الذي عبر فيه أردوغان عن مخاوفه الخاصة حيال المرتزقة المدعومين من روسيا الذين يدعمون خليفة حفتر في ليبيا، وقوله إن تركيا لن تلتزم الصمت.
تدرك روسيا أن تركيا قادرة على عرقلة عملياتها في شمال غرب سوريا، وأن ديناميات أستانة وسوتشي بين البلدين هي السبيل الأمثل. وقد ظهر ذلك جليا بعد رفض روسيا وقف الهجوم، حيث باشرت تركيا دعمها لفصائل المعارضة في "الجبهة الوطنية للتحرير"، وزودتها بأسلحة نوعية، ودفعت فصائل امتنعت عن المشاركة في البدية إلى الانخراط في المعركة، حيث وصل "الحزب الإسلامي التركستاني" إلى جبهات المعرة، ومعه تنظيمات وتشكيلات جهادية أخرى، ودخل أكبر تشكيلين مسلحين في ادلب؛ وهما "هيئة تحرير الشام" و"فيلق الشام" على خط المواجهة، إضافة إلى غرفة "وحرض المؤمنين" بقيادة "حراس الدين".
خلاصة القول؛ إن الحملة العسكرية الحالية التي تنفذها قوات النظام السوري بدعم من القوات الجوية الروسية، لا تشكل سوى فصل آخر للوصول إلى مشهد المعركة النهائية الكبرى في إدلب، وهي معركة لا يمكن أن تتم دون تفاهمات تركية روسية؛ فقد بات واضحا أن دينامية أستانا- سوتشي أفضل الخيارات الممكنة حول مصير إدلب، ورغم الخلافات الروسية التركية، لكنهما حريصان على الشراكة في إطار التنافس وليس التصادم؛ إذ تحرص روسيا على عدم خسارة الشريك التركي، لكنها تسعى إلى فرض وقائع جديدة تفضي إلى تفاهمات جذرية، فواقع إدلب يشير إلى عالم مختلف ومعقد يضم ثلاثة ملايين نسمة، تتحكم هيئة "تحرير الشام" في مشهده بالكامل، وتتحكم في بقية الفصائل الجهادية العالمية العابرة للحدود المتمركزة في إدلب وشمال غرب سوريا، والمكونة من المقاتلين الأجانب (المهاجرين)، وقد توصلت إلى تفاهمات مع جماعة "حراس الدين"، ونجحت في نسج علاقات متوازنة مع الحزب الإسلامي (التركستاني)، وكتيبة التوحيد والجهاد (الأوزبك)، وجيش المهاجرين والأنصار (القوقاز)، وكتيبة (الألبان)، وحركة المهاجرين السنة من إيران، وبهذا فمعركة إدلب الكبرى ما تزال مؤجلة بانتظار تفاهمات ومقايضات بين موسكو وأنقرة.