في السجالات التي تدور حول بعض الأفكار المطروحة في المجال الديني، سواء تحت عنوان تجديد الخطاب الديني أو القراءة المعاصرة للتراث، أو في الموقف من الدين نفسه، تثار عادة مجموعة من المغالطات حول الردود التي تناقش تلك الآراء، أو تواجهها، أو تتصدّى لها. ولا يثير تلك المغالطات أصحاب القراءات الجديدة أو الذين يعلنون موقفهم الرافض للدين برمّته أو معجبوهم وأتباعهم فحسب، بل حتى أحيانا في دوائر الإسلاميين وعوام مثقّفيهم والخائضين في الشأن العام منهم.
أوّلى هذه المغالطات الدعوة المزمنة بالردّ على
الفكر بالفكر، والمبالغة في إنكار الأوصاف التي قد تُطلق على أصحاب تلك الآراء الجديدة أو الناقدة، كالجهل مثلا، الذي يعُدّونه مطلقا شتيمة، مع أنّه قد يكون وصف حال أو مقال، والجهل واقع في كلّ المجالات، ولا يختلف البشر في أنّ الأفكار منها ما هو سخيف وتافه، وأنّ ما غَلَبَتْ عليه السخافة لا يمكن الردّ عليه بفكرة توهم برفعته وجدارته بالردّ وهو ليس كذلك.
هذا الذي هو موضع اتفاق بين البشر، يختلف حاله في المجال الديني، عند بعضٍ ممن نعنيهم بهذه المقالة، إذ يفترضون أنّ أيّ فكرة تطرح في هذا المجال، إن وُصِفَت بالجدّة والاختلاف، يمتنع أن تواجه بالتسفيه والتجهيل، كأنّها جديرة بذاتها بالردّ المحترم لمجرّد دعوى
التجديد فيها، وهم غير مطّردين في ذلك، إذ الذين يدعونهم بالتقليديين والتراثيين، لا يمنعون وصفهم بالتخلّف والجمود والظلامية والكهنوت، وما سوى ذلك، كما أنّ أصحاب القراءة المعاصرة، وغيرهم، لا يمتنعون عن تضمين أقوالهم هذا الضرب من الأوصاف وما يزيد عليها.
يتفرّع عن هذ المغالطة، مغالطة أخرى، إذ البداءة بإنكار السبّ والشتم والتسفيه، دون الإشارة للردود المتينة، توحي بأنّ أحدا لا يتصدّى لتك الآراء إلا بالسبّ، مع أنّ الردود التي تفكّك تلك الآراء، وتتعامل معها بجدّية واهتمام، وتمسك المقولات واحدة واحدة بالتفنيد، أو تنقض المنهج وتثبت عدم جدارة صاحب الرأي بالدليل والبرهان، كثيرة كثرة وافرة، منذ القرون الهجرية الأولى وحتّى الساعة. فالدهرية والإلحاد وإنكار بعض السمعيات أو إنكار بعض الأسس والأطر، والمناقشات بين أتباع الأديان، كانت دائما موجودة، وبعض معالمها وصلنا إلى اليوم في صورة كتب وردود. وقد طوّر المسلمون علوما للجدل والمناظرة، لا في أبواب الفقهيّات فحسب، بل حتّى في أبواب الأصول، ولولا أنّني أتحدث عن الأمر من حيث هو مجرّد عن نماذجه المعاصرة، لمثّلت بعشرات الردود المعاصرة المحكمة والمستفيضة بالمناقشة الهادئة، المتعالية على مجرّد وصف الأفكار المخالفة بما فيها من جهل أو سفه.
ومثل هذه المغالطة قد تنمّ عن ضيق في استيعاب ما يُنتج في هذه الموضوعات، والعيب هنا في الخوض في أمر لم يتقصّ الخائض فيه ما يقال فيه.. وقد تصدر المغالطة عن غرور، سواء غرور المردود عليه الذي يزعم أنّ أحدا لا يمكنه الردّ عليه إلا بالسبّ والتكفير، ولا يخلو هذا من الكذب، أو غرور بعض المعقّبين الذين وكأنّهم يقولون إنّ الردّ الذي لا نتولاه نحن، هو ردّ غير علميّ، فينكرون، ربما حتى دون قراءة الردود، أو السبّ، وكأنّ الساحة خلت إلا من السبّ!
وهنا، ينبغي أنّ نفرّع على ذلك ملحوظة مُهمّة، وهي أنّ مواقع التواصل الاجتماعي يَكتب فيها مئات ملايين العرب والمسلمين. ومن البداهة أنّ هؤلاء تتفاوت علومهم ومعارفهم واهتماماتهم وانشغالاتهم وقدرتهم على استظهار الحجّة وما شابه، لكنهم يشتركون إلى حدّ كبير في معرفة ضروريات دينهم وقطعيّاته، ممّا يُعلم بالضرورة ويُدرَك بمجرد العيش بين أظهر المسلمين. ومثل هؤلاء قد يتأذّون ممّا يمسّ شيئا ممّا عرفوه وآمنوا به، ومن العنت مطالبتهم بالردّ التفصيليّ والإحاطة بالمعارف ذات الصلة، وهذا يعيدنا للمغالطة السابقة، بقصر الصورة على حميّة عوام الناس لدينهم دون بقيّة الردود العلمية، ولو قيل إنّه ينبغي كفّ من لا يعلم عن الخوض في الردّ والنقاش، لأنّه قد لا يُحسن إلا السبّ، فمن باب أولى أن تكون حمى عقائد الناس أعلى من حمى المتطاولين على عقائدهم.
تظلّ مغالطة أخرى دائما ما تُطرح، وهي أنّ الدين قويّ بما يغني عن تلك الردود، أو أنّ الردود توهم ضعف الدين، وهذا القول إنْ قُصِد به الردّ مطلقا، مهما اتّسم بالأدب والإحاطة والعلم والقوّة والصلابة، فإنّه لا يعني إلا أن تُترك الساحة لقول واحد، وقد يُضمِر تسامحا مع كل قول إلا الأقوال التي تحامي عن دينها. كما يَغفل هذا القول عن الأسباب التي يحفظ الله تعالى به دينه، فقد تعهّد بحفظ الكتاب، وجعل صدور الذين أوتوا العلم وعاء له، وكذا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بكتابته، وألهم الله الصحابة بعد ذلك بجمعه ونسخه، وطُوِّرت من حوله علوم العربية والنطق والتجويد والقراءات والرسم والضبط وغيرها من العلوم، وأُلّفت في إثبات مصدره الإلهي وفي معالم إعجازه المؤلّفات، وكذا للدين جملة من الأسباب التي يهيئها الله لحفظه، وعباده الذين يحامون عنه. وأمّا إن قصد بذلك ما كان دون مثل هذا من الردّ، ففيما سبق كفاية في مناقشته.