"شقا عمري.. شقا عمري ضاع".. بهذا المشهد الذي استطاع المخرج علي عبد الخالق أن يخرج كلمات الكاتب المبدع محمود أبو زيد من سطورها، في روايته العار، إلى واقع تقمصه بحرفية متناهية الفنان نور الشريف، لينقل مشاعر إنسانية عميقة تنم عن خيبة الأمل ونهاية العالم بالنسبة لإنسان ظن أن بينه وبين مستقبله الذي حلم به لحظات ليمسك السراب في النهاية، فينهار وينهار معه أخواه، الطبيب المشهور ووكيل النيابة، اللذان ضحيا بمستقبلهما الوظيفي من أجل الثراء السريع.. إنه مشهد النهاية والرسالة التي اختتم بها محمود أبو زيد روايته، والذي بقي علامة في تاريخ السينما العربية.
من هذا المشهد الذي قد يبدو بعيدا عن ذلك المشهد الذي كنت أشاهده نهار الخميس الماضي، لكن مقاربة ما قفزت إلى ذهني.. كان المشهد الذي كانت تنقله شاشة قناة الجزيرة، هو جلسة للبرلمان التركي في جلسة تاريخية عاصفة يناقش فيها قرار الرئيس التركي أردوغان بإرسال قوات تركية إلى ليبيا. وعلى قدر الكلمات النارية المعارضة وتفنيد الأسباب ودحض الحجج من قبل المعارضة، في مقابل تأكيد المصالح وعد المنافع من الحزب الحاكم وحلفائه، وذلك الجو المشحون الذي شهدته الجلسة، انتهى الأمر بالتصويت الذي رجح قرار إرسال قوات تركية إلى ليبيا، وهو القرار المستند إلى اتفاق اقتصادي وأمني وقع بين الدولة الليبية والدولة التركية، ذلك القرار الذي أربك المشهد في البحر المتوسط والدول المطلة عليه، لكن أكثر من اهتز في هذا المشهد هو النظام المصري، الذي لم ينفك يتصل بكل الدول الفاعلة في المنطقة سواء من كانوا من سكانها أو حتى من لهم نفوذ فيها، حتى أصدر بيانا من وزارة خارجيته أكد هذا الاهتزاز والارتباك الذي يعيشه النظام، فالبيان أدان و"بشدة" تمرير البرلمان التركي مذكرة إرسال قوات تركية إلى ليبيا..
هذه العبارات الركيكة إنما تؤكد على أن الدبلوماسية المصرية لم تعد في الإنعاش، ولكن تم تكفينها وتنتظر أن توارى الثرى. فلا يعقل أبدا أن تدين حكومة برلمانا في أعراف السياسة، إذ إن البرلمانات في العادة تمثل الشعوب، فخارجية النظام في مصر أخرجت الصراع من صراع مع الإدارة التركية إلى دائرة الشعب التركي، إلا لو كان النظام في مصر يظن أن كل برلمانات العالم مثل برلمانه؛ أداة في يد السلطة شكلتها مخابراتها.
بدا من تخبط النظام المصري واستنجاده بسكان الكوكب بعد التصويت على مصادقة البرلمان التركي على قرار إرسال قوات إلى ليبيا أنه في ورطة كبيرة ولا يجد من ينقذه منها، لا لأنه قد يوضع في مواجهة مباشرة مع القوات التركية في ليبيا، لأن ذلك مستبعد، لأسباب كثيرة ليس مجالها هنا، لكن لأنه يشعر أن جهد سبع سنوات ومليارات أنفقت على شركات العلاقات العامة وأسلحة تم شراؤها كرشاوى مقنعة لأنظمة من الشرق والغرب وخلق ملفات وهمية لإيجاد مكان في خريطة اهتمام الدول الفاعلة في العالم؛ قد تلاشى. فالنظام وكفلاؤه، والحق يقال، لم يقصروا لشراء الشرعية وإيجاد هامش عمل في محاور القضايا الإقليمية، والتي كان آخرها القضية الفلسطينية التي كان يقوم بدور العراب فيها.
القصة يا سادة ليست حفتر ولا حكومة الوفاق، ولا الإخوان المسلمين، ولا حتى فرية أن تنظيم الدولة هرب من سوريا والعراق إلى ليبيا، إنما القصة الحقيقية هي غاز المتوسط الذي أنشأ النظام المصري مع كل من قبرص واليونان والكيان الصهيوني وإيطاليا والأردن؛ له منتدى أسموه منتدى غاز شرق المتوسط، متجاهلين تركيا صاحبة أطول ساحل مطل على البحر المتوسط.
فاتفاق ترسيم الحدود البحرية التركي- الليبي كان ضربة لهذا المنتدى، لكن الغريب أن أكثر من انتفع من هذا الاتفاق هو النظام المصري، الذي أعاد لمصر ما يقارب الـ15 ألف كم مربع تنازل عنهم النظام في اتفاقيات رضي فيها أن يكون خاسرا، فقط لكسب ود الكيان الصهيوني الذي يسرق غاز شرق المتوسط ويرغب في بيعه في أوروبا عبر قبرص واليونان، وهو ما أفشله اتفاق ترسيم الحدود البحرية التركية - الليبية، وأصبح الأنبوب المنتظر مجبرا على أن يمر في حدود تركيا الاقتصادية المرسمة.
ولا يمكن قراءة الاتفاق الذي تم توقيعه بين كل من الكيان الصهيوني واليونان وقبرص على أنه أفشل المخطط التركي، لأنه في النهاية هدف دون الاتفاق على وسيلة، التي في النهاية ستكون تركيا صاحبة السيادة. فتركيا (في ظني) فلن تمانع من إيصال غاز الكيان الصهيوني إلى أوروبا، لأن خلاف ذلك سيضعها موضع المواجه، وهو ما لن تقبله في الوقت الحالي، بما يعني أن كل ما قدمه النظام المصري راح أدراج الرياح وتهمش النظام المصري من جديد بعد كل هذه التنازلات التي قدمها.
وأظن أن رأس النظام في مصر متقمص الآن دور نور الشريف في فيلم العار صارخا "شقا عمري.. شقا عمري ضاع"، لكني أستغرب من تباين الموقفين، وإن كان البطلان يتاجران في الممنوع، لكن بطل فيلم العار كان يصرخ على ضياع بضاعته، أما بطل فيلمنا هذا يصرخ لضياع بضاعة غيره.