لأسبوع كامل، لم يتوقف المحللون وأشباه المحللين وفصيلة أخرى من محترفي الظهور على الشاشات، لا يعرف لها تصنيف محدد، من نفث آرائهم وقراءاتهم للمشهد بعبارات وجمل ومفردات جاهزة تحيد في الغالب الأعم عن الأسئلة المطروحة وتذهب للعموميات، التي لا مجال للاجتهاد فيها. فالمنهج في تحليلها موحد ومعروف. كان الموضوع الغالب على النشرات متعلقا بما بعد اغتيال قاسم سليماني وتأثيره على منطقة الشرق الأوسط بساحاتها المختلفة.
تمخض الجبل وتولد عنه فيلم هندي رديء بقصة وإخراج أكثر رداءة. وإن كان من حسنة للفيلم الهندي فربما تكون فضح أو تأكيد صفة مجرمي الحرب على وجوه كثيرين دأبوا على التحجج بالقانون الدولي مبررا لاعتداءاتهم أو عقوباتهم هنا وهناك، وفي كل مكان يمكن لآلتهم التدميرية الوصول إليه.
أحمد آدم ممثل مصري يحمل في رصيده الفني عددا من الأفلام، أحدها معنون بـ"فيلم هندي"، لكن الذي يهمنا في هذا المقام فيلمه "معلش احنا بنتبهدل"، حيث يحدد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أعداء الولايات المتحدة في مشهد يظهر فيه أمام البيت الأبيض في مواجهة صحفيين.
فيلم معلش احنا بنتبهدل (2005 – إخراج شريف مندور)
في حديقة البيت الأبيض، جورج بوش الابن في مواجهة الصحفيين لتقديم تصريح هام.
بوش: نحن نعلم من هم أعداؤنا في العالم. صدام حسين في العراق، ابن لادن في أفغانستان، والقرموطي في نزلة السمان.
صحفي: سيدي الرئيس، هل يشكل القرموطي تهديدا للأمن القومي الأمريكي؟
بوش: لا يمكنني الإجابة عن هذا الآن.
صحفي: هل القرموطي قادر على شراء أسلحة دمار شامل كما ادعى؟
بوش: لا نملك هذه المعلومات.
صحفي: هل القرموطي هو مصدر أسلحة الدمار الشامل في العراق؟
بوش: هذه معلومات سرية.
وفي حوار آخر من نفس الفيلم جمع القرموطي بالرئيس الأمريكي، يحدد بوش خطته لتضليل العالم ومواطنيه.
بوش: سيد قرموطي سنعلن للعالم أنك كنت تورد أسلحة دمار شامل للعراق من موسكو.. وسوف نعلن للعالم كله أنك مسؤول عن الانفجارات التي ضربت السفارات الأمريكية.
بعد بوش الابن أتى باراك حسين أوباما وبعده دونالد ترامب.
ترامب أضاف للائحة أعداء الولايات المتحدة أسماء أخرى، كان آخرها البغدادي ومن بعده قاسم سليماني، والتهمة بقيت ذاتها: تهديد الأمن القومي الأمريكي والإرهاب. الجديد أن لائحة ترامب بعدية لا قبلية؛ يقتل "المتهم" ثم يجعله على رأس لائحة المطلوبين، ويعلن نصره المشهود للناخبين الأمريكيين وبقية العالم أن الكون صار أكثر أمانا في انتظار عملية اغتيال أخرى خارج القانون وبنفس المبررات، يتبعها مؤتمر صحفي آخر بنفس المعلومات والتأكيدات.
مجرمو الحرب "المنتخبون" أو المختارون بقدر إلهي، حسب ما يعتقده الأتباع، لا يعترفون بالقانون ولا بأخلاق الحرب ولا يرون من سبيل للإجهاز على "العدو" وتركيعه غير استخدام القوة عسكريا أو اقتصاديا أو اغتيالا للأفراد. مع دونالد ترامب، توسعت دائرة القوة الغاشمة، كما أسماها ديكتاتوره المفضل ذات يوم، لتشمل الصروح الثقافية والمعالم الحضارية المستثناة دوما من دوائر الصراع.
في خضم "الحرب" الكلامية التي استعرت وملأت عواجل الأخبار على الشاشات بعد اغتيال يد إيران الضاربة خارج الحدود، لم يتردد ترامب من التهديد بأحقية بلاده في ضرب أكثر من خمسين هدفا إيرانيا، بينها مواقع ثقافية على مستوى عال جدا من الأهمية للبلاد. وتساءل مستنكرا الانتقادات الموجهة لخياره؛ أن كيف يسمح للإيرانيين بقتل وتعذيب وتشويه مواطنيه ويمنع هو من المس بمواقعهم الثقافية. الأمور، بالنسبة لترامب، لا تسير بهذا الشكل.
بعدها بأيام فقط عاد الرجل لتكرار أسطوانة استعداده للتفاوض مع "الجمهورية الإسلامية" مسدلا الستار، ولو مؤقتا، عن فيلم هندي حبس أنفاس المتفرجين لغوا وجعجعة بلا طحين. سليماني قد يكون حجر عثرة أمام أي صفقة محتملة بين النظام الإيراني والأمريكيين لن تستثني "محور المقاومة" من التطويع، واختفاؤه عن المشهد أراح البلدين على ما يبدو. لقد صار في الذاكرة الشعبية الإيرانية رمزا يتبرك بالتمسح بالصندوق الخسبي الحاضن لما تبقى من جثته، ويكفيه ذلك "فخرا" على ما قدمه طوال سنوات "إجرامه" في المنطقة في حق أهلها قبل "الأعداء" الأمريكان. أما قاتله دونالد ترامب، المتفاخر بإصداره أمر الضغط على الزناد، فمسيرته للظفر بولاية ثانية صار سالكا، ومعه ستتضخم تعقيدات منطقة الشرق الأوسط لأربع سنوات أخرى لن تبقي من خيراتها ومقدراتها واستقلال قرارهاومعتقداتها ولن تذر.
قبل سنوات أقدمت حركة طالبان على بدء عملية تدمير تمثالين عملاقين لبوذا في منطقة باميان، قبل أن يتراجع الملا عمر على استكمال العملية بدعوى أن البوذيين لم يعودوا موجودين في البلاد، مما يعني أن تماثيلهم لم تعد أصناما للعبادة. وبعده بسنوات جاء مسلحو تنظيم داعش ليعيثوا في آثار مدينتي تدمر والموصل، من تماثيل وأعمدة ومدافن ومعابد، تحطيما وتكسيرا وتشويها، بعد أن قطعوا رأس تمثال أبي العلاء المعري بمعرة النعمان. وفي كلتا الحالتين تصدر المشهد "مهرجون"، بدرجة مفكرين ومجددين دينيين، اعتبروا عدم "تنقية" المناهج الدينية ونصوصها كفيلا بتكرار نفس المشاهد بما تمثله من خسارة لا تعوض للتراث الإنساني.
ترامب الذي تمكن من فرض تغيير المناهج الدراسية والكتب الدينية وأرسى، بأيدي "علماء" الأمة المجددين، دعائم "الإسلام الجديد"، هو الذي أطل من البركة الآسنة لمجرمي الحرب برأسه مناديا بتدمير حضارة فارس التي لا يمكن اختصارها في نظام جمهورية "آيات الله". ليس الأمر غريبا، فسلفاه جورج بوش الابن ووالده لم يسثنيا حضارة بابل من الدمار الذي خلفته قنابلهم "الذكية" في العراق. وعندما تمكنت القوات الأمريكية من دخول بغداد، فتحت أبواب متحفها الوطني على مصراعيها للتتار الجدد من الناهبين وسارقي التحف والغوغاء.
في فيلم "معلش احنا بنتبهدل"، يقدم الأمريكان القرموطي في مؤتمر أمام الصحفيين بعد "اعتقاله"، فيسترسل في إجابات متفق عليها مع "معتقليه"، فجأة تبدأ الحقائق في الانكشاف..
القرموطي (بلباس غوانتانامو)، معلقا على الشريط الذي تبنى فيه الرواية الأمريكية في العراق: الشريط ايلي انتو شفتوه ده فيلم. والله العظيم فيلم.. انتو مضحوك عليكم يا جماعة زي ما احنا مضحوك علينا بالظبط..
مسلسل الضحك على الشعوب مستمر حتى اليوم، والحكام الذين نعتقدهم بقدرتهم على التمييز عُمْيٌ يحبون استخدام الهواتف والسفر عبر العالم بدعوى السعي لوقف التصعيد. ومن ذات المحبرة يدبجون البيانات النارية للاحتجاج على التدخلات الأجنبية بليبيا دفاعا عن حفتر، سليل نظام القذافي، دعما له على الاستمرار في جرائم الحرب التي يرتكبها نهارا جهارا بأسلحة يعرف القاصي والداني مصدرها وطريقها.
قبل أيام، ارتكبت جريمة حرب حقيقية في حق ما لا يقل عن ثلاثين طالبا بالكلية العسكرية، وخرج المبعوث الأممي غسان سلامة للحديث عن أن دولة مساندة لقوات حفتر من قصفت الكلية. افتقد غسان الشجاعة في الإعلان عن اسم الدولة التي يعرفها الجميع، ويعرف من يساندها ويعضدها في غيها وإجرامها المنتشر في كل بقاع الجغرافيا العربية. الأمم المتحدة أعجز من تسمية بلد لم يعرف له تأثير أو دور على الساحة الدولية بالفعل لا التفاخر، فكيف لها أن تشير إلى الولايات المتحدة ورئيسها ترامب بأصبع الاتهام؟
مجرمو الحرب موجودون بيننا، ولا داعي للبحث عنهم عند الآخرين. أما الأفلام "الهندية" فماركة وصناعة عربية بامتياز، وما عليكم إلا مشاهدة نشرات الأخبار على التلفزيونات الحكومية أوالممولة من نفس صندوق شراء الأسلحة لحفتر وغيره من المجرمين.
اغتيال سليماني: حسابات تركيا المعقدة
هل تنجح أمريكا في جعل إيران دولة بمنزلة مليشيا؟!