في كتابه "تأملات حول المنفى" يذكر إدوارد سعيد: "للمنفى شجن دفين لا يمكن التغلب عليه البتَّة، فهو ينبع من الواقع الأساسي للمنفيّ، من الانفصام أو الشرخ الذي لا برء منه بين شخص ما ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها".
على الرغم من أن الشعر العربي،
والشعر العالمي بعامة عبر عصوره، زاخر بالشعراء المنفيين سواء في أوطانهم أو خارج
حدودها، (النفي في الوطن أو النفي عن الوطن)، فإن العصر الحديث جسد ظاهرة النفي
خارج الوطن بصورة لا تحتاج إلى توضيح، وخصوصا مع تشكل الدول الحديثة، التي تجبر
مواطنيها، في حالات كثيرة، على الخضوع لشروطها السياسية، الأمر الذي يُلجئ
المعارضين إلى البحث عن ملجأ بديل خارجها.
يعد القرن الماضي وما بعده زمن
الاقتلاع عن الوطن العربي، فقد شهدنا منذ بداياته الهجرات القسرية مع "شعراء
المهجر" اللبنانيين، مرورا بالهجرة الفلسطينية، وهجرة عرب إفريقيا، وصولا إلى
الهجرتين: العراقية والسورية وغيرهما.
مارس بعض الشعراء العرب، في المنفى،
الكتابة بلغة أجنبية، غير أن جل ما نشهده كتابة باللغة العربية الأم، ولا سيما أن
هؤلاء الشعراء يظلون على إحساس متزايد بأنهم جزء من الثقافة العربية، لذلك يصعب
تجنيس هذا الشعر، بالمعنى الدقيق، تجنيسا
جديدا، فهو يحمل الخصائص الفنية ذاتها للشعر العربي، وهذا لا ينكر الإضافة
الموضوعية والفنية لهذا الشعر، حيث نجد اتساعا في رؤية الشاعر المغترب ورؤيته
لقضايا الوطن والأمة على نحو اكثر اتساعا وعمقا بسبب اتساع زاوية الرؤية، ومنح
حرية أكبر للتعبير، والانفتاح على الثقافات الجديدة، لذا نجد أن الطابع الإنساني،
لديهم، يزداد عمقا وشمولا.
اقرأ أيضا: رواية "ناقة صالحة".. محاولات السنعوسي للتمرّد على الشهرة
كما لا يزال الشعراء العرب في المنفى يستشعرون حالة لافتة من الحنين العاصف لأوطانهم، والذاكرة الممزقة التي تحمل صور البطش والعنف الذي تمارسه الأنظمة القمعية والاستعمار، واللافت أنهم لم ينتموا إلى الخريطة السياسية للبلدان الجديدة، بل ظلوا منتمين إلى بلدانهم الأصيلة، مدافعين عن حقوق مواطنيها.
يمثل الشاعر العراقي "عدنان
الصائغ" أحد الشعراء الذين عاينوا الاستبداد السياسي وقمع النظام الشمولي في
بلده، وقد اضطر في عام 1993 إلى الهجرة القسرية متنقلا بين عواصم عربية وعالمية
إلى أن استقر به المقام في السويد.
والمتتبع لدواوين الصائغ المختلفة
يستشف حالة الاغتراب والنفي التي عاشها الشاعر في بلده، لذا نعثر على ذات متأزمة
تعاني من صراع الذات أولا، وصراع الذات مع الآخر ثانيا، وأخيرا الصراع مع الوجود،
ولا سيما أنه عاش تجربة الكتابة في أتون الحرب، بين الألغام والأسلاك الشائكة،
وعكست هذه القصائد تجربة الشاعر في الحرب والحصار وفي صقيع المنفى.
وتتسم قصائد المنفى لديه بالجرأة
والصراحة في نقد السلطة السياسية في ظل توفر مناخ الحرية الذي وفره له المنفى،
والبعد عن الترميز، ومع ذلك ظلت قصيدته تتسم بالعمق وتوافر العناصر الفنية،
والقدرة على الإدهاش، فهو يعبر، بنجاح لافت عن الأسباب السياسية التي أجبرته على
الرحيل والنفي، مشيرا، بشكل صريح، إلى الاستبداد الذي تعرض له من النظام السياسي
الذي لا يتيح مساحة، ولو قليلة، للحرية والتعبير عن الرأي الذي يتعارض مع
أيدولوجية النظام الشمولي الجائر، وهو مالم يكن متحققا في الفترة السابقة التي
عاشها في بلده العراق.
وثيمة " النفي" واضحة في
دواوين الشاعر ولا سيما في ديوانه " تأبط منفى". والواضح أن قصائد
الديوان كتبت في فترات وأمكنة مختلفة، ولذلك لا تعتمد الترتيب المنطقي والزمن
التصاعدي، ونجدها تأتي على شكل أمواج متصاعدة تتراوح بين الماضي والحاضر، ولكنها
تأتي متناغمة متآلفة في مضمونها المشوب بنبرة الاغتراب المكاني والوجودي.
والحقل الدلالي لثيمة
"المنفى" جليّ في الديوان، كما يوحي عنوانه، ولا يخفى على المتلقي
استكشافه، فنعثر على مفردات مثل: المنفى، الرحيل، السفر، الشوارع، الرصيف، التشرد،
التي تشي بهيمنة حالة النفي وتجلياته على الشاعر، إثر خضوعه للهجرة القسرية عن
وطنه، الذي يظل الحاضر- الغائب في مجمل قصائد الديوان.
يشكل المنفى حالة مرتبطة بالتأويل
السياسي، وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بسيرته كشاعر وجد في الشعر أرضا للإقامة، ومسكنا
أخيرا للبحث عن مأوى يسكن فورة الهم الوجودي لديه، ذلك نجده يحمل وطنه بين جنباته
ويتأبط كنفاه ومعه شعره وتأوهاته وأحلامه:
سأحمل حقائبي
ودموعي
وقصائدي
وأرحل عن هذه البلاد
ولو زحفت بأسناني
يحمل المنفى دلالات التجذر في
اللامكان، والانقطاع عن الكينونة، كما يحمل دلالات الغربة والانقطاع والاستلاب
وسواها من هذه الإشارات التي تشكل مفاصل القصيدة، وتؤلف وحدتها المضمونية. وتعبر جملته
اللافتة "ونظل نعوي في شوارع العالم" عن سيرورة هذا الإحساس وتجذره في
وعيه ورؤيته العبثية للعالم.
نحن هنا إزاء شاعر متسكع صعلوك، على
غرار قرينه الجاهلي "تأبط شرا"، يعبر الشوارع، ولا ينجح في إيجاد مستقر
لهويته المتأزمة، لذا يظل على إحساس متأزم بمآلات المنفى وما يتركه من لوعة
واختناق نتيجة هذا الإحساس.
اقرأ أيضا: الأدب الإسلامي: إشكالية التصنيف وندرة الإبداع الخلاق
ونجد أن حالة التسكع والتشرد تهيمن على مجريات
القصيدة من خلال حضور ثلاثة عناصر رئيسة: المكان، والشعر، والمرأة، مجسِّدة حالة
القلق والضجر واليأس:
أتسكع تحت أضواء المصابيح
وفي جيوبي عناوين مبللة
حانة تطردني إلى حانة
وامرأة تشتهيني بأخرى
أعض النهود الطازجة
أعض الكتب
أعض الشوارع
قصيدة الصائغ صادقة تتوغل في تضاريس
الغربة وتحتفي بالإنسان كأرقى وجود يمكن أن يتحقق في الوجود، تسرد رحلة العذاب بين
المنافي بحثا عن مستقر مكاني وروحي.
أنا شاعر
جوّاب
يدي في جيوبي
ووسادتي الأرصفة
وطني القصيدة
ودموعي تفهرس التاريخ
أشبح السنوات والطرقات
وتحمل الصورة لديه دلالات الاغتراب وتجلياته، وهذا ماثل في جل مقاطع القصيدة، مثل: " راكلا حياتي بقدمي من شارع إلى شارع / مثلما يركل الطفل كرته الصغيرة ضجرا منها"، ومثل " ودموعي معلقة كالفوانيس على نوافذ السجون الضيقة"، و: " وأمضي طليقا --- ضجرا أو يائسا/ كباخرة مثقوبة على الجرف".
فهو هنا يمتهن السفر في عالم الكلمات
والصور والمجاز، لينضم إلى قافلة الشعراء المنفيين الكبار، الذين أضافوا للشعر
مناخات جديدة. فقد أضاف لقصيدة المنفى ألقاً إضافياً وخلّصها من كثير من الشوائب
والترهلات والحيل التقنية التي يلجأ إليها بعض الشعراء احتيالاً على مقص الرقيب.
واللافت هنا، وفي مجمل القصيدة، أننا
إزاء نص ذاتي وسيرة شعرية يتناولها السرد من خلال ضمير المتكلم ولا يبارحه إلا في
حالات نادرة، مما يعزز حالة تمركز الشاعر حول الذات ساردا جراحاته ومحنته الأبدية.
ويبدو الشاعر غير متكيف مع منفاه،
لذا نجده يحلم بالعودة إلى الوطن، ولكنها عودة افتراضية لا تتوافر فيها الشروط
الإنسانية، ذلك لأن الواقع السياسي في الوطن لم يتغير، لذلك تظل عودة مشوبة بمشاعر
الحزن والخيبة:
سأجلس على باب الوطن محدودب الظهر
كأغنية حزينة تنبعث من حقل فارغ
يعطيني الثلج وأوراق الشجر اليابسة
أنظر إلى أسراب العائدين من منافيهم
كالطيور المتعبة
إن هذا الشاعر الحالم المتمرد لم
يسقط في مهادنة القمع، ولم يتزحزح عن مواقفه الأصيلة، ولم يتخل عن إنسانيته الرهيفة،
ولا عن شعريته الذاهبة إلى المدى الأقصى من الإبداع شرطاً لتحققها وضرورة
لاكتمالها.
وفاة الصحفي والشاعر السوداني فضل الله محمد