رغم انقطاعه الطويل والقسريّ -ومنذ انتخابه رئيسا للمكتب السّياسي لحركة
حماس- بدأ إسماعيل هنيّة جولته الدبلوماسيّة الدوليّة المثيرة للجدل، وهي الأولى منذ تولّيه رئاسة المكتب السياسي للحركة.
فأغلب أحداث هذه الجولة كانت للبعض مثيرة للجدل، في الوقت الذّي لم تشكّل للبعض الآخر سوى نتيجة سياسية حتميّة لأوضاع سياسيّة وطنيّة وإقليميّة تمرّ بها القضية
الفلسطينية عامة وحركة حماس خاصة.
فالجدل الذي أشعل رأس البعض، المجادل، يتمحور في زيارة إسماعيل هنيّة لإيران ومشاركته في جنازة قاسم سليماني، أحد قادة الحرس الثوري
الإيراني والذي اغتيل على يد القوات الأمريكية.
فقد كان لهذا الجدل بعدان اثنان أولاهما، البعد الرّسمي الذي يحمل في طيّاته تخوفاً تمثيلياً سياسياً من قيادة السلطة الفلسطينية التي باتت تخشى على مكانتها السياسية على جميع الأصعدة، سواء على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو حتّى على صعيد الّلاعبين الدوليين الأكثر تأثيرا في الساحة الدولية؛ خاصة وأنّ جولة حماس الدبلوماسية الأخيرة لم تقتصر على زيارة إيران، وإنما سبقها زيارة للّاعب السياسي الإقليمي الأكثر حضورا في الشرق الأوسط وهو "تركيا"، وما زال الباب مفتوحا لجدول زيارات دولية أخرى كما أعلنت الحركة مسبقاً.
أمّا البعد الآخر، فهو البعد الشعبي الذي فاضت مشاعر تضامنه مع الشعب السوري وثورته، فقد رأى هذا البعض مشاركة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في جنازة قاسم سليماني خذلاناً لضحايا الشعب السوري وثورته التي شارك سليماني نفسه في العمل على إخمادها وقمعها.
فلا شك أنّ حركة حماس كأي حزب سياسي، تسعى إلى تعزيز مكانتها السياسية سواء على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو الدولي، ولا شكّ أيضا أنّ القيام بجولة دولية كهذه، تشكّل فرصة سانحة لتحقيق هذه الغايات، إلا أنّ هذه الجولة لم تترك للحركة الكثير من الخيارات السياسية لا في تحديد الدول المشمولة فيها، ولا حتى في رسم الحدود السياسية للعلاقات المرجوة منها، و خاصة مع دولة مثل إيران.
فعلى الصّعيد الوطني، تقبع الحركة تحت ضغط داخلي (وإن كان غير مباشر) من سكّان قطاع غزة الذين يعانون حصارا خانقا منذ عام 2007، الذي زاد خناقه بعد الإجراءات العقابيّة التي بدأتها السّلطة الفلسطينية على قطاع غزة منذ 2017.
وما رافق ذلك كلّه من فشلٍ متكررٍ لجهودٍ متكررةٍ لمصالحةٍ وطنيةٍ غائبةٍ، التي كان آخرها التأخّر في إصدار مرسوم رئاسي لإجراء انتخابات فلسطينية عامة في الضّفة وغزّة حتى اللحظة.
أمّا على الصعيد الدولي والأقليمي، ومنذ مجيء ترامب للحكم 2017، فقد عملت الإدارة الأمريكية الجديدة على تأكيد انحيازها المطلق للموقف الإسرائيلي المتعلّق بالصّراع، وما رافق ذلك من تحوّلات تحالفيّة مرتبطة بإسرائيل بين دول الشّرق الأوسط، وهو ما خلّف حالة من الاستقطاب والاحتقان السياسي المتطرف بين دول فاعلة في المنطقة.
لقد شكلّت هذه الظّروف -وما زالت- تهديدا واضحا على مكانة حركة حماس السياسية ضمن المنظومة السياسية الوطنية والإقليمية، لا بل كادت هذه الظروف أن تشكّل تهديدا ليس على مكانة الحركة السّياسية فحسب، وإنّما على وجودها أيضا، ما فرض عليها السّعي الدائم نحو تعزيز مكانتها السّياسية الدّولية عبر تحالفاتها الإقليميّة مع الدّول الصدّيقة و الدّاعمة لها ومن ضمنها إيران، كحركة تحرّر وطني -كما تكرّر إعلانه- دون مزاحمة على التمثيل السياسي الفلسطيني الذي تدّعيه العقول المجادلة.
إن هذه الظّروف السّابقة التي تمر بها القضية الفلسطينية عموما، وحركة حماس خاصة، لم تجعل جولة حماس هذه أمرا مستغربا، لكنّها تترك سؤالين اثنين في العقول غير المجادلة:
إلى أي مدى كان لزاما على حماس أن ترسم حدودا لتحالفاتها السّياسيّة مع حلفائها الإقليميّين؟!
فالتحالفات الدولية السياسية ضوؤها الأحمر يكاد يكون واضحا، فلا يجوز لهذه التحالفات أن تسلب القرار السياسي المستقل، وهذا ما نجحت به حماس سابقا، مع أمل أن تكون قادرة على المحافظة عليه لاحقاً في ظلّ هذه الظروف.
أمّا التساؤل الآخر الذي أثاره سلوك إسماعيل هنيّة أثناء زيارته الأخيرة لإيران، فهو إلى أيّ مدى كان لزاما على حماس أن ترسم حدا فاصلا واضحا بين نظام التحالفات السياسية الدولية وبين المسّ بالمنظومة القيمية التي تشبّع بها الشعب الفلسطيني كافة، والقائمة على نصرة المظلوم والثائر؟!!
فقد نجحت حماس في إتقان هذا الفصل، حين خرجت من سوريا بعد اندلاع ثورة سوريا 2011، لكنّها فشلت أثناء تنظيم برنامج زيارتها الأخيرة لإيران.
طالما استمرّ الانقسام الفلسطيني الفج، تفاقمت آثاره، فالبرنامج السّياسي الفلسطيني الموحّد هو الحضن الوطني الدّافئ الذي يعود إليه كلّ فلسطيني حاطب.
د. رائد أبو بدوية
أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية