أحداث ساخنة شغلت الكثيرين في المنطقة العربية عن قضايا مصيرية ومحورية تعاني منها الشعوب الواقعة تحت
الاستبداد منذ عشرات السنوات، أهم تلك الأحداث تحرك الآليات التركية تجاه شواطئ ليبيا التي تتصارع من أجل الاستقلال والشرعية المنتهكة منذ سقوط معمر القذافي على يد الثوار، ومنها أيضا مقتل القائد الإيراني قاسم سليماني بأمر مباشر من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتخوف الشعوب العربية من اشتعال المنطقة بالحرب في طرفيها الشرقي والغربي، حيث الصراع الأمريكي الإيراني من ناحية، والحرب الدامية في الغرب من ناحية أخرى.
وفي خضم تلك الأحداث المتسارعة منذ الساعات الأولى في عام 2020، تمر
مصر بذكرى ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير وقد ضاعت كل مكتسبات
الثورة مع حكم الانقلابي عبد الفتاح السيسي، الذي وصل بالبلاد إلى حافة الخطر، حيث التنازل عن الحقوق التاريخية لها في أراضيها التي يقتطع منها النظام الجزر والأحياء والشواطئ والآثار، ثم التنازل الأكبر في حصة مصر التاريخية في مياه النيل، تلك الحصة التي يجب أن تزيد بحكم الزيادة السكانية وزيادة الرقعة الزراعية لتكفي احتياجات السكان المتزايدة، غير أنه مقابل الاعتراف الأفريقي به وإعطائه مشروعية يفتقدها، فقد تنازل عن أكثر من ثلثي حق مصر في المياه، مما يهددها على المدى القريب بالتصحر وخطر الفقر المائي المدقع، هذا غير التنازل عن حقها في غاز المتوسط الذي استولت عليه حليفته إسرائيل لتعيده لمصر تصديرا في مهزلة تاريخية لم تحدث مسبقا في أي قُطر من الأقطار.
تمر ذكرى الثورة بينما كل الثوار أو من تبقى منهم بكل توجهاتهم وطوائفهم، من ساكني المعتقلات أو مهاجرين أو مطاردين داخل البلاد، يعجز أحدهم أن يحصل على لقمة عيشه لصعوبة بقائه في عمل ما، ونظرا لفصل الأغلبية من أعمالهم الحكومية، وكأن النظام ينتقم من كل من سولت له نفسه أن يشارك في تلك الثورة، التي كان هو نفسه أحد انتكاساتها، وإذا به يهدد الشعب ويتوعد بأنها لن تكرر، في الوقت الذي تشرف فيه السفينة على الغرق بمن فيها.
وثيقة محمد على ورفقاء الثورة
منذ أيام أعلن الفنان والمقاول محمد على عن وثيقته التي حاول أن يجمع فيها كل من فرقتهم الأحداث من ثوار يناير 2011، استقى بعض بنودها من الدستور الحالي ودستور 2012. وأعلنت جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تتمسك بشرعية الرئيس الشهيد محمد مرسي حتى تم اغتياله؛ تأييدها للوثيقة، كذلك أعلنت معظم القوى الليبرالية تأييدها لها، مما يكسر حاجزا كبيرا كان يقف بين المهتمين بالثورة ومستقبل البلاد.
وبهذا، فإن محمد علي نجح في ما فشل فيه الكثيرون ممن نادوا باصطفاف الآخرين والجمع بينهم، وبهذا أيضا نجد أنه قد سار نصف المسافة بينه وبين إسقاط النظام الانقلابي في البلاد. وتأتي الأحداث الخارجية لتصب في مصلحة الثورة المصرية على عكس ما قد يظن البعض، فالإرادة الدولية الآن تهتم بشأن آخر غير الشأن المصري، وغير حماية مستبد فشل في إسكات المعارضة في شعبه كما صور لهم قبل أن ينفذ انقلابه؛ من أن البلاد ستدين له بالطاعة في غضون شهور، وأنه في خلال هذه الشهور سوف يقضي تماما على جماعة الإخوان المسلمين المناوئة له، غير أنه وبسياساته الفاشلة قد خسر كل من دعموه في بداية حكمه، وبأدائه الاقتصادي قد حول الشعب كله لمعارضين مناوئين ينتظرون لحظة الخلاص.
لقد ساعد الوجود التركي بليبيا على كشف ضعف النظام وهشاشته، فبعد أن كاد الإعلام المصري أن يشعل نار الحرب بدعواته العنترية، تحول الخطاب فجأة لخطاب ناعم مدعيا أنه لم يدعم اللواء حفتر بأي دعم لوجيستي، وإنما توقف عند الدعم السياسي، ومن قلب الكنيسة يعلن قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي أنه لن "يجرجره" أحد إلى الحرب.
وهذا تراجع يضعف من موقفه خارجيا، بعدما تم كشفه داخليا. وعلى المحور الآخر فإن الوضع الأمريكي الإيراني في الخليج قد شغل بعض البلدان الداعمة للانقلاب، مثل المملكة السعودية التي انشغلت بالتهديدات الإيرانية بضرب القواعد العسكرية الأمريكية من أراضيها، ومحاولة استعادة مكانتها عند الرئيس الأمريكي، خاصة بعد الدور السياسي الذي أداه وزير الخارجية القطري في التهدئة بين أمريكا وإيران بعد مقتل سليماني، وكذلك دولة الإمارات التي افتضح أمرها في إثارة القلاقل وشراء الحكام، بعد التسريب الأخير بمكالمة محمد بن زايد مع وزير الخارجية الماليزي السابق ورشوته المشبوهة.
وخلاصة القول في هذا أن الداعمين للانقلاب في مصر مشغولون بمشاكلهم الداخلية ولو لبعض الوقت، مما يضاعف الفرصة أمام الشعب المصري ليقوم بانتفاضته والخلاص منه، بالتزامن مع رسائل الطمأنة من محمد علي الذي أكد في غير مناسبة على أن المرحلة المقبلة لن يتقدم التيار الإسلامي فيها لسدة الحكم، وأن الأمر يعود للشعب يختار من يشاء، وبهذا يكون كانون الثاني/يناير هذا العام هو الفرصة الذهبية للشعب المصري للتخلص من الانقلاب من جذوره.
الجوكر والاحتقان الداخلي بالشارع المصري
بالتزامن مع تحركات محمد على المكوكية بين لندن وتركيا وقطر لتجميع من يستطيع من قيادات تستطيع تحريك الشارع، ظهر الجوكر المصري بفكر إبداعي لم يعرفه الشعب المصري من قبل، فكرة السلمية المبدعة. وبناء على الأرقام التي أعلنها الجوكر في وقت من الأوقات، فإن آلافا من الشباب الآن يتدربون على الحراك بغير سلاح، وبغير استسلام يسمح للنظام باستخدام العنف ضد المتظاهرين بغير ثمن، فكل ما دون استخدام السلاح مسموح لمنع الاعتداء على أي ثائر.
وإذا أردنا قراءة المشهد بتجرد، فإن نزول الشباب في حراك أيلول/ سبتمبر الماضي يشير لحاجة الناس واستعدادهم للحراك خلاصا من المحنة التي وضعهم فيها النظام. فغير الانحدار السياسي والاقتصادي والجغرافي، فإن الحياة بمصر أصبحت من المستحيلات على الطبقة المتوسطة التي اقتربت من التلاشي والذوبان في الطبقة الفقيرة، وضاقت الحياة بأولياء الأمور وأصحاب العوائل، غير الخطر الأمني الذي يلاحق كل من تسول له نفسه بالاعتراض أو النقد أو إبداء الرأي فيما يدور. لقد تحولت البلاد في عهد السيسي لجيش له دولة، يدور الشعب في فلكها، ويدير الحياة السياسية التي أفسدها، ويتحكم باقتصادها، ليتمركز المال حول اللواءات والجنرالات، بينما الاغلبية العظمى من الشعب تعاني عجزها عن توفير احتياجاتها اليومية.
إن مصر مشبعة بالثورة، وحالة الاحتقان الداخلي تتزايد يوما بعد يوم، والشعب ينتظر قائدا يطلب منه النزول، وها قد توفر القائد، ليس في شخص محمد علي، ولا في شخص الجوكر المصري، وإنما في اتحاد قوى المعارضة بالخارج، تلك المعارضة التي عطلت كثيرا من تقدم الثورة بخلافاتهم التي حرص النظام بآلته الإعلامية على إذكائه واستمراره. فاليوم لم يعد هناك له داع ولا سبب، وأصبح لزاما على الجميع أن يصطف بجانب الآخر للخلاص من عدو يكاد أن يهوي بالبلاد من هاوية شديدة المنحدر.
إن الشعب المصري محتقن بالثورة وينتظر الإشارة، ويبدو أنها انطلقت بالفعل في نفس يوم ذكرى الثورة، ولا مانع أن تسبق اليوم الموعود مسيرات ثورية في أماكن مختلفة بالدولة، كتمهيد ليوم الغضبة الكبرى.
لقد أصبحت الكرة اليوم في ملعب الشعب، وعليه أن يثبت وجوده في هذا العالم المشحون، الذي لا يوجد فيه مكان للضعفاء، ولا لغة فيه مفهومة إلا لغة القوة والندية للكبار. فهل يلتقط الثوار الخيط ويشعلونها ثورة شاملة تطيح بكل قوي الفساد في البلاد؟ إن هي إلا أيام قليلة وتأتي الفرصة التي قلما أن تتكرر.