الإرهاب هو المصطلح الأكثر استعمالا وشيوعا اليوم في الخطاب السياسي والإعلامي العربي والدولي. الحرب على الإرهاب ومقاومة الإرهاب والجماعات الإرهابية والفكر الإرهابي والمدّ الإرهابي... وغيرها كثير من المشتقات والتراكيب تصبّ كلها في هدف واحد وهو جعل المصطلح والمعاني المرتبطة به ظواهر مركزية في الوعي الجمعي العربي والدولي.
بقطع النظر عن الأهداف الغربية والاستعمارية الواضحة من استعمال هذا المصطلح منذ ثمانينيات القرن الماضي فإن المحير والمثير للدهشة والصدمة معا هو استثمار الأنظمة العربية الرسمية وأحزاب المعارضة والنخب العربية نفس المعجم من أجل شيطنة بعضها البعض.
دفعت قطر ثمنا باهظا جدا بسبب وقوفها إلى جانب الشعوب وتماهيها مع الموجة الثورية التي رأت فيها تعبيرا على حالة من التحرر المفاجئ من القهر والظلم والفساد.
الحرب العالمية على "الإرهاب الإسلامي" التي يشنها الغرب على بلاد المسلمين ظاهرة معلومة لا غبار عليها اليوم منذ احتلال العراق وسقوط بغداد في 2003. كذلك الحرب التي تشنها الأنظمة العربية ضد المعارضين السياسيين باسم الحرب على الإرهاب هي الأخرى حرب لا تخفي أهدافها بل تندرج بشكل أعنف في منظومة دولية تعيد رسم خريطة المنطقة بأدواتها القديمة. لكن عندما تستعمل الأنظمة العربية تهمة الإرهاب فيما بينها بل حتى ضد قوى إقليمية فإن الإرهاب يتجاوز عندها المهمة التي رُسمت لأجله.
أطوار الظاهرة الإرهابية
مرّت الظاهرة الإرهابية ككل ظاهرة سياسية بأطوار مختلفة لكنها لا تخرج في المجمل عن مراحل ثلاث أساسية، وهي طور النشأة والتشكل وطور المسار والانتشار وأخير طور الضمور والاندثار. يصعب تحديد موقع الظاهرة اليوم على هذا الخط الزمني لكنها منطقيا تخرج عن طور النشأة والتشكل وتقترب من منطقة أوج فعلها الثقافي والفكري والسياسي الاجتماعي. رغم ذلك يصعب الجزم بمعرفة إن كانت تتجه فعلا نحو الضمور والاندثار أم أن طور المسار لا يزال في بدايته لأن عوامل وفواعل معقدة وشديدة الارتباط بعضها ببعض على الأرض لا تسمح بإبداء
رأي موضوعي في تمييز شيخوخة الظاهرة من شبابها.
تمّ تدمير العراق واحتلاله ثم غزو أفغانستان وتدميرها ثم تدمير الشيشان وكانت كلها جرائم ترتكب باسم الحرب على الإرهاب وهو " الإرهاب الإسلامي" طبعا حسب المعجم الغربي ذي المرجعية الصليبية الصهيونية. هكذا نجحت القوى العالمية في العودة إلى المنطقة العربية حيث مستعمراتها القديمة ومنابع النفط والغاز مسلحة بحجة جديدة غير حجة الحماية ونشر الحضارة والانتداب التي تسلحت بها في القرون الماضية.
ثورات الربيع كانت منعرجا حاسما في التاريخ الحديث للحركة الاستعمارية. غزت أمريكا العراق بكذبة أسلحة الدمار الشامل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات ثم احتلته مطلع الألفية الثانية احتلالا كاملا إثر أحداث الحادي عشر سبتمبر التي شكلت أولى الحملات الدولية المنضوية تحت شعار الحرب على الإرهاب. وشكلت الحرب على تنظيم القاعدة المتهم بالتفجيرات أول دفعة في جيل الحروب المفتوحة التي لا تزال قائمة إلى اليوم حتى فاجأها الربيع العربي.
قطر في قلب الربيع العربي
استهدف الربيع العربي في تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا النظام القائم منددا بالفساد والقمع وغياب الحريات ولم يرفع شعارات دينية بل طالب بدولة مدنية وهو المطلب الذي لا يزال قائما في ليبيا إلى اليوم. انقسمت الدول التي لم يشملها الربيع إلى فريقين : أما الأول فكان مناصرا لثورات الشعوب متفهما لتطلعاتها رافضا الانقلاب عليها إيمانا منه بالشرعية الثورية والشرعية الانتخابية. أما الفريق الثاني فكان مكونا من كل رافضي التغيير والخائفين من وصول الموجات الاحتجاجية إلى عروشهم وهو الأمر الذي دفعهم إلى التحالف مع بقايا النظام والانقلاب على التجارب الديمقراطية الناشئة خاصة في مصر وليبيا.
تقع قطر في قلب المجموعة الأولى التي رفضت الانقلاب على الثورات ودعمت الشرعية الانتخابية في تونس ومصر ووقفت إلى جانب ثورة ليبيا وثورة سوريا. كانت قناة الجزيرة العربية بوصلة الثورات ومركز رحاها وبلغت من الشهرة ما جعل أذرع الثورة المضادة تتهمها بأنها كانت السبب وراء اندلاع الثورات. في الحقيقة باغتت الثورات العربية كل المنصات الإعلامية التي لم تكن تتوقع زلزالا بهذا الحجم بما في ذلك قناة الجزيرة التي تجاهلت مسار الثورة التونسية في بدايته ولم تنتبه له إلا عندما اشتد وقارب بن علي السقوط.
انقسمت الدول التي لم يشملها الربيع إلى فريقين : أما الأول فكان مناصرا لثورات الشعوب متفهما لتطلعاتها رافضا الانقلاب عليها إيمانا منه بالشرعية الثورية والشرعية الانتخابية. أما الفريق الثاني فكان مكونا من كل رافضي التغيير والخائفين من وصول الموجات الاحتجاجية إلى عروشهم
دفعت قطر ثمنا باهظا جدا بسبب وقوفها إلى جانب الشعوب وتماهيها مع الموجة الثورية التي رأت فيها تعبيرا عن حالة من التحرر المفاجئ من القهر والظلم والفساد. وصل الأمر بقوى الثورة المضادة إلى التخطيط لغزوها عسكريا وتغيير النظام فيها بالقوة المادية ووضع اليد على ثرواتها بعد الحصار الأخير.
لم يكن كل ذلك ممكنا دون تحضير لأرضية التقبل في المخيال الجمعي العربي والإسلامي الممزق بدوره بفعل الثورات وما أحدثته من رجات عظيمة. ومن هنا جاءت فكرة ربط قطر بالإرهاب خاصة بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة بانتخابات حرة ونزيهة في مصر وتونس وليبيا.
الإرهاب ونهاية الانقلابات
كان المناخ الدولي مستعدا لتقبل السردية الجديدة لأنها تحقق أهدافا متعددة في آن واحد. إن إلصاق تهمة الإرهاب بدولة قطر العربية المسلمة يسمح بترسيخ المقولة بين العرب والمسلمين أنفسهم أي أن السلاح الخارجي سينتقل من اليد الاستعمارية إلى يد الضحايا فيتقاتلون بسلاح صنعه غيرهم لقتلهم معا.
ثانيا يساعد وسم قطر بالإرهاب على خلق حجة لاستنزاف الفريقين وابتزازهم وخلق حالات من الصراع المفتوح الذي يعود على القوى الدولية بمنافع كبيرة. وليست صفقات التسليح الخيالية التي أبرمتها دول الخليج خلال السنوات التسعة الماضية والأرقام الفلكية التي صاحبتها إلا أوضح دليل على ذلك.
ثالثا تساعد حالة الفوضى السياسية والأمنية المتمددة في الخليج وأطرافه المشتعلة على منع بلوغ مسارات التغيير الناشئة هدفها الذي انطلقت لأجله. إن الابقاء على حالة التسيّب والانفلات والتناحر والقتل المفتوح تشكل أسمى مطامح القوى الاستعمارية بخلفيتها الصليبية الصهيونية في شيطنة الإسلام والمسلمين ووسمهم بالهمجية والإرهاب.
من ناحية أخرى فإن الدول المتورطة في المشاريع الانقلابية وعلى رأسها الإمارات والسعودية لا تزال تواصل شيطنة الثورات وشيطنة من يرفض الانقلاب عليها. لم تسلم من ذلك دولة قطر ولا دولة تركيا ولا الحكومات المنتخبة في تونس ومصر وليبيا الواقعة في مرمى المشاريع الانقلابية. الأدهى من ذلك هو دعم هذه القوى للجماعات المتطرفة من المداخلة في ليبيا وصولا إلى المنظمات الكردية المتطرفة في تركيا وسوريا بالمال والسلاح.
فشل الانقلاب في تركيا وانهار حصار قطر وأصبحت المشاريع الانقلابية في مصر وليبيا تترنح أمام واقع جديد أدركت فيه الشعوب أن الإرهاب إنما صُنع لتدمير الأوطان بيد وكلاء الاستعمار في المنطقة
لم تنجح كل الدول والأطراف التي اتهمت قطر بالإرهاب واتهمت
تركيا بدعم الإرهاب والجماعات الإرهابية في أن تقدم دليلا ماديا واحدا على تورط الدولتين وهو ما يكشف أن الهدف من هذه الاتهامات يقتصر على شيطنة الخصم والتنفير منه.
بناء على ما تقدم نجحت القوى الانقلابية العربية الداعمة لمشاريع الفوضى في فرض حالة من العزلة على الأطراف الأخرى لكنها عزلة لم تدم طويلا. فشل الانقلاب في تركيا وانهار حصار قطر وأصبحت المشاريع الانقلابية في مصر وليبيا تترنح أمام واقع جديد أدركت فيه الشعوب أن الإرهاب إنما صُنع لتدمير الأوطان بيد وكلاء الاستعمار في المنطقة. الأخطر من ذلك هو أن توحش الثورات المضادة ومشاريعها الانقلابية ومشاهد الدماء النازفة في سوريا وليبيا ومصر واليمن ستكون وقودا لمرحلة جديدة في تاريخ الأمة لن يكون ما بعدها مثل سابقها مطلقا.