في مكتب قاضي الأحوال الشخصية..
القاضي: إذا زوجك أسير، مش أحسن توقفي معو؟ مش مكفيه إيلي هو فيه؟
بيسان: زوجي مش أسير سياسي وإيلي عمله كان غلط.
القاضي: حسب عقد القران العصمة بإيد زوجك. لكن بتقدري تطلبي خلع إذا انحكم لفترة طويلة. فيه قرار محكمة؟
بيسان: لسه ما تحاكم
القاضي: بتقدري ترجعي بس يكون فيه قرار محكمة. أنت ليش مستعجلة؟ كوني صبورة يا بنتي. إن شاء الله زوجك يطلع وترجعو لحياتكم الطبيعية.
المشهد من فيلم التقارير حول سارة وسليم ـ 2018 للمخرج الفلسطيني مؤيد عليان.
تتواصل الأحداث.. تخرج بيسان الحامل من مكتب القاضي وتصدم بما تراه على جدران بيوت الشارع حيث تمر. تنتصب أمام ناظريها لافتة مكتوب عليها: الحرية للأسير البطل سليم موسى. تمزقها ثم ترميها في صندوق قمامة قريب.. لكن سيل المنشورات المعلقة على الجدران والأعمدة لا ينتهي وعليها صور زوجها "الأسير البطل" وشعارات تدعو لإطلاق سراحه. تمزق بيسان ما استطاعت إليه سبيلا قبل أن تنهار تنهار باكية.
فلاش باك..
في نفس الفيلم، يعتقل رجال أمن فلسطينيون مواطنهم سليم موسى، على خلفية تقارير أمنية تخص علاقة تجمعه بإسرائيلية. التهمة كانت حسب التقارير دعارة ومخدرات تخفي تخوفات من تخابر أو تجنيد.
سارة، المرأة الإسرائيلية، صاحبة حانة في القدس الغربية ومتزوّجة من نقيب في الجيش الإسرائيلي.
يستعين شقيق زوجته بأبو إبراهيم، أحد كوادر منظمة كتائب القدس، لإنقاذه من الموقف دون علم من الإثنين بفحوى الاتهامات. ما كان بالإمكان أن يتراجع أبو إبراهيم عن تخليص سليم من ورطته بعد تأكيده أنه تابع له مشمول بحمايته إذن.
أبو براهيم (موجها كلامه للضابط بعد الاطلاع على التقارير): أول إيشي الله يعطيكم العافية احتراما للشغل إيلي بتسووه. كنت بفضل ما توصل الأمور لهون، بس بتخيل أني مجبور اشرح لك شوية. هذا الشاب يشتغل معنا. إحنا طلبنا منو يجر رجلها ويجيبها على بيت لحم ومقدرش أشرح لك أكثر من هيك.
الضابط: بس يا أبو براهيم أنا محتاج لإثبات. إيشي مكتوب.
أبو براهيم: شو يعني؟ أنا بكذب عليك؟
الضابط: لا يا أبو براهيم.. سلامة قيمتك.. كلامك على عيني وراسي (يأخذ التقرير ويمزقه) بس بتعرف يا أبو براهيم عشان أسكر الموضوع لازمني إيشي مكتوب.. يعني لو أي حدا يتابع أعرف شو أجاوب.
أبو إبراهيم: ماشي..
وكانت بداية أكذوبة المناضل سليم موسى، حيث يطلب منه أبو إبراهيم كتابة تقارير عن عملية "استدراج" المرأة الإسرائيلية أملاها عليه حرفيا، وهكذا كان..
تقوم القوات الإسرائيلية بالهجوم على بيت لحم وتستولي على وثائق مكاتب المنظمة وبينها تقارير سليم، لتقوم على الفور باعتقاله طمعا في الوصول لاسم الإسرائيلية المعنية.
صار سليم أسيرا بطلا، وهو الذي لم تخرج بطولاته عن إشباع نزوات جنسية داخل سيارة توصيل الخبز التي يشتغل عليها.
متسلقون يبحثون عن الغنيمة
قد تكون هذه الحكاية مجرد كتابة سينمائية متخيلة. لكن واقع الأمر يؤكد أن أشباه سليم موسى منتشرون في الفضاء العربي وموزعون على أقطاره دون استثناء. مواطنون عاديون أو متسلقون يبحثون عن الغنيمة بإصرار وترصد يتحولون بين عشية وضحاها لرموز يحظر الاقتراب منها بالنقد أو التشكيك. الحكاية يملكها الرسميون أو من يحاولون الركوب عليها، تحقيقا لأهداف آنية أو مستقبلية، وهم أيضا من يملكون وسائل وإمكانيات الترويج لها. وما عدا حكايتهم المغشوشة لا مجال لرواية أخرى تعيد النبش في الوقائع أو تقدم قراءة بديلة أخرى.
في فلسطين وفي العراق وفي تونس ومصر وليبيا، في الخليج والمغرب والسودان وفي بقية الأقطار قصص وأكاذيب وأساطير، تناقلتها الأجيال ورعتها السلطات، حتى صارت أصناما يُتَبرك بالتقرب إليها ترقيعا لشرعية مهزوزة أو تكريسا لواقع مأزوم أو ترويجا لمستقبل كاذب لا أمل فيه.
شهود الزور لا يزالون بيننا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويتحسرون على حاضر مأزوم ومستقبل ضبابي، وهم فاعلون أصليون في الجرم المستمر مذ عقود.
الركوب على الطموحات الجماهيرية وعلى تضحية الجموع ليس أمرا جديدا، ففي مراحل "الاستقلال" السياسي عن دول الاستعمار، تمكنت "نخبة" من الأفاقين من كتابة طلاسم الحكاية التي سحروا بها الشعوب المغلوبة على أمرها تجهيلا وتفقيرا.
يستعيد فيلم السطوح ـ 2013 للمخرج الجزائري مرزاق علواش، نفس الموضوع على لسان عمي العربي "المسجون" في كوخ على السطح مربوطا بسلاسل وممنوعا من الخروج. إنه، بالنسبة للنظام، أحمق وكلامه مجرد هذيان يمنع على العامة الاختلاط به ولا سماع أحاديثه وروايته للحقيقة التي تدحض الأكاذيب وتنسف الأساطير..
يحكي عمي العربي للبنت الصغيرة: كما قلت لك.. أنا وحدي من رآه. كان الجميع يعتقدونه البطل، ولا يزالون إلى اليوم يعتقدونه كذلك. كان ينزل درجات سلالم القصبة والرشاش على كتفه والمسدس بيده وكنا فخورين به.. كان أنيقا لكن ابتسامته لم تكن تروقني. كان دائم الابتسام. عندما كنت أخبر أصدقائي بالأمر كانوا يعتبرونني مختلا.. شخصيا، كنت أعتبر الآخر هو البطل.
الطفلة: من يكون الآخر؟
عمي لعربي: حسن رحمة الله عليه. كان البطل الحقيقي. كل الجزائر كانت تعرفه والجنود الفرنسيين يخشونه ويهابونه.
الطفلة: وهل كان يبتسم أيضا؟
عمي لعربي: أبدا. في تلك الفترة لم نكن نتبسم. البسمة كانت محرمة. كانت ممنوعة....
الطفلة (خائفة): فهمت قصدك عمي. أرجوك أن تهدأ.
عمي لعربي: لم تفهمي شيئا. لا أحد منكم فهم شيئا. أنتم تدعون الفهم لا غير.... أنتم تعتمدون على الأجنبي لتسيير البلاد. أنتم سرقتم مقدرات البلد. لسنين طوال لم تفهموا شيئا.
وفي مشهد آخر يواصل الحكي..
عمي لعربي: أغلقوا مداخل الحي صباحا. كان الوضع غريبا وكانت رائحة الموت تشتم في كل ركن. كانت طائرة الهيليكوبتر تحوم فوق القصبة وهاجمنا الجنود كالجراد. كانوا تحت البيت حيث يختبأ حسن ورفاقه. لم نكن نريده أن يموت. كان البطل. طلب منه رئيس الجنود تسليم نفسه ثم فجروا البيت وتوفي جميع من فيها. الخائن الذي دل العساكر على المكان كان حاضرا ورأسه مغطى حتى لا نتعرف عليه. وبسبب الغبار والدخان الناتجان عن الانفجار أزال الغطاء على رأسه ليتنفس فتعرفت عليه. رأيت الابتسامة التي كنت أكره.
لم تستمع الطفلة لنهاية الحكاية ما يجعلها حبيسة كوخ الكلاب، حيث يحتجز عمي لعربي مسلسلا ومبعدا عن الناس.
بيسان امتنعت، هي الأخرى، عن فضح زوجها سليم فهي حريصة على أن يكبر ابنها في احترام والده. لا يهم ما يظنه الشعب ولا تهم الأكذوبة التي ستستمر على حساب الحقيقية وعلى حساب مستقبل ابنها وجيله ومن يأتي بعدهم من أجيال.
شهود الزور لا يزالون بيننا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويتحسرون على حاضر مأزوم ومستقبل ضبابي، وهم فاعلون أصليون في الجرم المستمر مذ عقود.
الوزير رأفت فؤاد سالم رستم في فيلم معالي الوزير ـ 2002 للمخرج سمير سيف، الذي صار وزيرا بالصدفة لتشابه اسمه مع المرشح الحقيقي رأفت عبد الفتاح أحمد رستم، لخص الحكاية فيما فاضت به نفسه وهو يغادر القصر الجمهوري بعد أداء القسم..
فؤاد سالم رستم: أقسم بالله العظيم أن أحترم هذه الصدفة، أن أحترم هذه الغلطة التي جعلتني وزيرا وأن أحسن استغلالها وأن أحافظ مخلصا على ثبات أقدامي وسلامة منصبي، وأن أبذل قصارى جهدي لخدمة هذا الشعب.. الشعب المكافح.