منذ ما يقرب من عامين، وهم
يحدثوننا عن "
صفقة القرن" التي تُعد في المطبخ الصهيوأمريكي لحل القضية
الفلسطينية، برعاية "
ترامب" وصهره "كوشنير"، وأصبح يطاردك
مصطلح "صفقة القرن" أينما وليت وجهك في جميع وسائل الإعلام، سواء المكتوب
منها أو المرئي أو المسموع، ليتم ربطه بكل حدث يحدث في المنطقة، عداك عن التقارير
التي تنشر عن الاجتماعات السرية التي جرت بين الرئيس الأمريكي "ترامب"
والحكام العرب، والتي تؤكد كلها موافقة هؤلاء الحكام على صفقة ترامب وصهره
الملعونة. وكلما تحدد موعد لإعلانها تراجعوا عنه وأجلوه إلى أن أعلنها "ترامب"
الأسبوع الماضي في حضور طباخ الصفقة "نتنياهو"، وبمشاركة ثلاثة سفراء من
دول الخليج ممثلين لحكومتهم (الإمارات- عُمان- البحرين)، في مشهد مستفز لكل من
لديه ذرة من الكرامة والعروبة أو لديه قسط من الإسلام. إذ أنهم وقفوا كشهود زور
على الصفقة الملعونة التي تصب في صالح المحتل الصهيوني وتصفي قضية الأمة: القضية
الفلسطينية!
لم تخرج بنود صفقة العار كثيرا عما سبق وسُرب
عنها طوال العامين الماضيين، بل وما سبق أن قيل عن وثيقة "بيلين- أبو
مازن" حول الحل النهائي عام 1995 كأساس لمعاهدة السلام الإسرائيلية
المستقبلية. ومن المؤكد أنها كانت الأساس الذي بنى عليها "كوشنير"
صفقته، إذ أن الاثنين يلتقيان في بنود كثيرة، لعل أبرزها إسقاط حق العودة،
والتنازل عن القدس نهائيا، لتكون السيادة الكاملة على القدس للمحتل الصهيوني،
والاكتفاء بأحد الأحياء المجاورة للقدس، وهو "أبو ديس"، ليكون عاصمة
للدولة الفلسطينية المزعومة، مع بعض التعديلات الطفيفة لتلائم تطورات الأحداث خلال
تلك السنوات العجاف التي ازداد فيها المحتل الصهيوني قوة وجبروتا بعد وصول
"ترامب" للبيت الأبيض، ودعمه اللامحدود له واعترافه بالقدس عاصمة له،
وموافقته على ضم الجولان والمستوطنات لحدود الكيان الصهيوني، ووقفه للمساعدات
المالية لـ"الأونروا"، وإسقاطه "حق العودة"، وهو ما لم يفعله
أي رئيس أمريكي سابق. أضف لذلك إعلان "نتنياهو" الدستور الإسرائيلي
الجديد الذي ينص على "يهودية الدولة"، والقانون العنصري البغيض للدولة
القومية اليهودية (كما أسماها)..
كما أنه ينسجم مع الوضع الفلسطيني المترهل
وحالة الانقسام الحاد فيه، أيضا الوضع العربي المُخزي، بعد انتصار الثورات
المضادة، وهرولة الأنظمة المتصهينة إلى
التطبيع مع الكيان الصهيوني في شتى
المجالات الرياضية والثقافية والفنية.. الخ. فلم يعد خافيا على أحد بعدما سقطت
الأقنعة، وكشفت الأنظمة عن وجههم الصهيوني القبيح، وفُضح المستور عنه لعشرات
السنين، وتبين مدى التعاون الجاري على الأرض، بين الأنظمة العربية المتصهينة
والمحتل الصهيوني في الكثير من المجالات حتى العسكرية والاستخبارية، وأصبحت تلك
الأنظمة ترى طوق النجاة لها في أيدي الصهاينة، الحامي الرسمي لعروشهم. ولعل لقاء
رئيس السودان "البرهان" مع "نتنياهو" بعد إعلان الصفقة
واتفاقهما على تطبيع العلاقات بينهما يؤكد ذلك!
كان اختيار وقت إعلان ما يسمونها بـ"صفقة
القرن" مدروسا تماما ومهيأ للتنفيذ، بعد أن عمدوا له الطريق.
لذلك نحن لا نصدق أن رئيس التنسيق الأمني
"محمود عباس" يرفض "صفقة القرن" وهو كان أحد عرابيها، عندما
كان يشغل منصب رئيس العلاقات الدولية في منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس المفاوضين
الفلسطينيين، بل الذي رفضها في ذلك الوقت هو ياسر عرفات، لذلك حاصروه وقتلوه فيما
بعد وأتوا بمحمود رئيسا بدلا منه، ليستكملوا مؤامراتهم، وإضفاء شرعية للاحتلال
الصهيوني من خلاله. وهذا ما قاله "ترامب" في خطته بوضوح دون مواربة،
وأنه "يتوجب على الفلسطينيين أن يعتنقوا السلام من خلال الاعتراف بإسرائيل
كدولة يهودية، ورفض الإرهاب بكافة أشكاله، أي أنه يطالبهم بالاستسلام والمذلة وليس
السلام..
ومع ذلك لا يزال "محمود عباس" يتكلم
عن السلام وينوي أن يذهب لمجلس الأمن ليدخل القضية الفلسطينية في دوامة عبثية من
المهاترات، ويؤكد محاربته لأي عمل مقاوم باعتبار أن المقاومة في عرف أمريكا إرهاب.
لهذا لم نشهد أي رد فعل إيجابي على الأرض للفلسطينيين في الضفة، تعبر عن غضبهم
لهذه الصفقة الملعونة. ويعزى ذلك بالطبع لقبضته الأمنية الباطشة التي تحمي المحتل
الصهيوني!
يقول الكاتب الصهيوني "روجل ألفر":
"صفقة القرن علمتنا أن الرهان على القوة يؤتي أكله، وأن العالم سيكافئك
عندما تفرض الوقائع على الأرض وتتجاهل العرب. المجتمع الإسرائيلي بعد الصفقة أكثر
تقديسا للقوة وبعدا عن السلام".
صفعة العار تطالب الفلسطينيين بالآتي:
أولا: الاعتراف بـ"إسرائيل" كدولة
يهودية.
ثانيا: نزع سلاح "حماس" في غزة.
ثالثا: التخلي عن حق العودة.
رابعا: وقف دفع الأموال لعائلات الأسرى
والشهداء والجرحى.
خامسا: وقف التحريض في التعليم الفلسطيني.
سادسا: وقف ملاحقة "إسرائيل" في
المحكمة الدولية في "لاهاي".
سابعا: عدم الانضمام للمؤسسات الدولية دون
موافقة "إسرائيل".
ثامنا: الاعتراف بحدود "إسرائيل" بعد
بسط سيادتها على الضفة الغربية.
هذه بنود إذعان وذل وهزيمة ليس للفلسطينيين
فحسب، بل للأمة الإسلامية ككل. هذه الصفقة الملعونة، مؤامرة كبرى، تستهدف الأمة
الإسلامية جمعاء في وجودها ومقدساتها.
إن أكبر خطأ، أو لنقل أكبر مؤامرة وقعت على
الفلسطينيين في القرن الماضي، أن جعلوا القضية الفلسطينية شأنا فلسطينيا بحتا،
بينما هي قضية كل المسلمين، ففيها القدس والمسجد الأقصى، ميراث النبوة للمسلمين
جميعا. لقد شعر كل مسلم غيور على دينه وعرضه بالإهانة وبالصفعة القوية التي وجهها
لهم ترامب، كما أحسوا بالعار من حكامهم العرب المتخاذلين الذين تلقوها بارتياح
وطيب خاطر، بل وشكروه عليها، وطلبوا من الفلسطينيين دراستها بجدية!!
إن صفعة العار ما هي إلا تتويج لسلسلة من
الصفعات بدأت منذ اتفاقية "أوسلو" الملعونة عام 1993 بين المحتل
الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي وقعها الزعيم الفلسطيني الراحل
"ياسر عرفات" التي أضاعت مسيرة النضال الفلسطيني العظيم، الذي قدم فيه
الأبطال أرواحهم فداء لتراب فلسطين، لا لكي تنشأ سلطة وهمية لخدمة الاحتلال
الصهيوني! في هذا اليوم المشؤوم، احترقت منظمة التحرير الفلسطينية واحترق معها
ميثاقها الوطني الذي ينص على أن الكيان الصهيوني كيان استعماري اغتصب أرض فلسطين
وعدم الاعتراف بإسرائيل!
تاهت فلسطين في الأزقة، منذ أن ألقت منظمة
التحرير الفلسطينية السلاح وحذفت من ميثاقها النضال المسلح "لتحرير أرض
فلسطين من البحر إلى النهر"، ليحل مكانها "السلام هو الخيار
الاستراتيجي" لمنظمة التحرير الفلسطينية!
منذ اتفاقية "أوسلو" وعلى أمل
السلام المزعوم، استطاع المحتل الصهيوني أن يحقق من المكاسب ما لم يستطع تحقيقه في
حروبه السابقة، وخسر الشعب الفلسطيني الكثير، إذ أدخلوه في دوامة من المفاوضات لا
تنتهي، وأصبحت المفاوضات من أجل المفاوضات، وضاعت القضية الفلسطينية في أروقة
المفاوضات وعبث المباحثات، وأصبحت السلطة الفلسطينية الوهمية جزءا من المشروع
الصهيوني بالتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني، فهي التي تضيق الخناق على حركتي
"حماس" و"الجهاد" وتقبض على الناشطين الفلسطينيين، وتبلغ
سلطات الأمن الصهيوني عن أماكن المقاومين الفلسطينيين، وآخرهم أبرز قادة حركة
الجهاد الإسلامي "بهاء أبو العطا"!
بالله عليكم، كيف لنا أن نصدق أن "محمود
عباس" يرفض ما تسمى بـ"صفقة القرن" وهو الذي طالب بنزع سلاح
المقاومة من حركتي "حماس" و "الجهاد" قبل أن يضعها ترامب في
بنودها؟! ولقد اعترف بذلك بلسانه في كلمته أمام ما تسمى بـ"جامعة الدول
العربية"، اعترف بخيانته موجها كلامه للصهاينة: "كنت أعطيكم معلومات
بالأحلام ما بتقدروا تجيبوها والآن بطلت دبروا حالكم"، ويضيف: "أنا لا
أؤمن باستخدام السلاح، وسأسعى لأن تكون فلسطين دولة منزوعة السلاح".
إذا كان حقا يرفضها، ويريدنا أن نصدقه، فكان
عليه ألا يقول هذا التهديد المبطن للصهاينة، بل كان يجب عليه أن يتخلى عن تنسيقه
الأمني مع الاحتلال الصهيوني، ويضع إحدى يديه في أيدي المقاومة، ويمزق بالأخرى
اتفاقية "أوسلو"..
في هذه الحالة فقط سنصدقه ونصفق له وسندعم
موقفه بكل ما أوتينا من قوة، وسنمسح تاريخه المخزي من ذاكرتنا..
في حقيقة الأمر، إن صفقة "ترامب" ما
هي إلا إقرار بالأمر الواقع ولن تغير منه شيئا، ولكنهم يريدون شرعنة الاحتلال
وسرقة الأرض ونهب الممتلكات الفلسطينية من خلال حكام "أوسلو"، وكل ما
جاءت به أن يوافق أصحاب "أوسلو" علنا وأمام الشعب الفلسطيني على ما سبق،
وإن وافقوا عليه في الخفاء في تلك الغرف المغلقة، على التنازل عن جميع حقوقهم
لصالح المحتل الصهيوني والإقرار بالأوضاع الراهنة، من القدس الموحدة عاصمة للكيان
الصهيوني، والأراضي المقامة عليها المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية والأراضي
الزراعية التابعة لها، والموارد المائية في الضفة والخاضعة لسيطرة الكيان
الصهيوني، وكذلك غور الأردن.. مطلوب منهم أن يعلنوا أن كل ذلك يُضم إلى الأراضي
الفلسطينية المغتصبة من المحتل الصهيوني عام 1948، ضمن ما يسمى دولة
"إسرائيل"، ويطالبون الفلسطينيين بقبول هذا من أجل إقامة "حكم
ذاتي" على كانتونات معزولة ومنفصلة عن بعضها البعض، ترتبط فيما بعد من خلال
أنفاق وهي تحت السيطرة الصهيونية. ولكن من الممكن بعد أربع سنوات من حسن السير
والسلوك أن تصبح دولة قابلة للحياة بلا سيادة ومنزوعة السلاح!!
ولن يجرؤ أي حاكم فلسطيني، مهما بلغت عمالته،
على قول ذلك، إذن فهي صفقة ولدت ميتة ولا تساوي الحبر الذي كتبت به!
أما الجديد في صفقة العار، فأنها كشفت كل
القوى التي جرت وراء وهم حل الدولتين، ووهم قرارات الأمم المتحدة منذ القرار 181
في عام 1947 الخاص بالتقسيم، والقرار 242 بعد هزيمة 1967، والذي طالب بانسحاب
القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي العربية التي احتلتها، وتسوية عادلة لمشكلة
اللاجئين. وهناك 131 قرارا صادرا من مجلس الأمن بشأن الصراع العربي الصهيوني لم
ينفذها الكيان الصهيوني، وجاء ترامب اليوم ليدوسها جلها بحذائه الأمريكي..
ومن السخرية بمكان أن يُطالب بعض حكام العرب الفلسطينيين
بدراسة صفقة ترامب بجدية، والتواصل مع الإدارة الأمريكية، والإصرار على أن أمريكا
راعية السلام في المنطقة، وهي الوسيط النزيه بين الفلسطينيين والصهاينة، وكأنهم
يطالبون المجني عليه بتسليم نفسه للقاضي والجلاد في آن واحد!!
يقول "ترامب" ومعه بعض الصهاينة
العرب، إنها فرصة للفلسطينيين يجب ألا يضيعوها كالفرص السابقة، ونحن نقول: نعم هي
فرصة، ولكن لترامب ونتنياهو لتنقذهما أمام شعبيهما من التحقيقات التي يتعرضان لها
الآن في بلديهما والتي قد تطيح بهما، ولكنهما سوف يتنفسا الصعداء من خلال هذه
الصفقة المشبوهة التي سيسوقونها خلال دعايتهم الانتخابية..
نعم هي فرصة للفلسطينيين كي لا يستسلموا
للعنصرية الصهيونية، وليوحدوا صفوفهم وينهوا حالة الانقسام ويفيقوا من وهم
"أوسلو" ويضعوا الاتفاقية تحت أحذيتهم، كما وضعها "ترامب"
ويعودوا لسيرتهم الأولى للكفاح والنضال..