لم تكن صفقة القرن بصفقة، فكما كان وعد بلفور اتفاقاً بين بريطانيا والحركة الصهيونية في العام 1917 في ظل غياب كامل لسكان البلاد الأصليين، نجد أن اتفاق سايكس بيكو السري في العام 1916 بين بريطانيا وفرنسا تم في ظل غياب كامل لسكان البلاد الأصليين في كل من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين. إن الوثيقة الأمريكية الإسرائيلية المسماة صفقة القرن ليست بأكثر من قرار أحادي حول مصير الشعب العربي الفلسطيني ومصير القدس دونما أدنى التفات لحقوق ولتطلعات ولتصورات سكان البلاد الأصليين. لهذا لا جديد في سياسات جوهرها استعماري وأساسها نفي كامل للحقوق.
وفق الوثيقة الأمريكية الإسرائيلية إن أمن
إسرائيل يشمل عزل سكان البلاد العرب في مناطق منفصلة عن بعضها البعض بشبكة طرق
تتحكم فيها إسرائيل، هذا ما تسميه اسرائيل دولة فلسطينية بينما هو في الواقع سلسلة
مناطق معزولة تتحكم إسرائيل باقتصادها وسكانها ومياهها. وبسبب قيام إسرائيل
بمصادرة منطقة الغور التي تشكل 30 في المئة من الضفة الغربية لن تستطيع تلك
المنطقة الفلسطينية التواصل جغرافيا مع الأردن. وفي الوثيقة الأمريكية الإسرائيلية
لا توجد كلمة واحدة عن: الاحتلال أو النكبة. وتوصف حركة حماس في الوثيقة بصفتها
منظمة إرهابية يجب أن تجرد من السلاح مقابل عدم وجود أي وصف لإسرائيل بصفتها دولة
محتلة تمارس العنف والإرهاب وتحتل أراضي الغير بالقوة.
كيف ستنشأ دولة فلسطينية، وفق الوثيقة
الأمريكية الإسرائيلية، في منطقة بلا سيادة وبلا حدود وبلا جغرافيا متصلة وبلا
اقتصاد مستقل وبلا القدس في ظل مصادرة 40 في المئة من الضفة والقدس؟ كيف يكون كل
هذا بلا حق العودة وحق الحياة الكريمة المستقلة للشعب الفلسطيني؟ بل كيف يكون هذا
منصفا بلا التزام إسرائيلي بالقرارات الدولية تجاه الأراضي المحتلة في 1967 وتجاه
حقوق الشعب الفلسطيني وتجاه القدس والجولان؟
الصفقة تشرعن وجود كل مستوطن في الضفة الغربية
والقدس الشرقية. وهذا يتضمن المستعمرات النائية، التي تربطها إسرائيل بشبكة للطرق
خاصة بها. بفضل الصفقة ستكون شرعية المستوطنين وشرعية سكان البلاد الأصليين في
الضفة الغربية متساوية. وهنا تطرح الصفقة مسألة تبادل الأراضي، إذ تقدم إسرائيل
بموجبها مناطق صحراوية معزولة أقيمت عليها الدولة عام 1948 وصودرت بالأساس من
الشعب الفلسطيني، مقابل مناطق المستوطنات الزراعية التي تمت مصادرتها في الضفة
الغربية المحتلة.
وفي الوثيقة تحتفظ إسرائيل بالمسؤولية الأمنية
الأساسية، إلى أن يصبح الفلسطينيون مسؤولين عن أمنهم. ووفق الوثيقة إذا فشلت دولة
فلسطين في تلبية جميع معايير الأمن الإسرائيلية فإن دولة إسرائيل سيكون لها الحق
في وضع بصمتها الأمنية على المناطق الفلسطينية.
وفي الوثيقة طرح جديد يتعلق بالتخلص من جزء هام
من عرب فلسطين 1948، وهذا واضح في الوثيقة عند التعرض لمناطق المثلث الفلسطينية
وإمكانية ضمها للمناطق الفلسطينية المفككة الأوصال والجغرافيا والمنقوصة السيادة.
وهذا يعني التخلص من كتلة من العرب في الدولة اليهودية عددها 400 ألف من أصل 1.7
مليون. مرة ثانية لا تخيب الوثيقة ظننا من حيث عنصريتها وسعيها نحو يهودية الدولة
مهما كان الثمن في الداخل وفي بقية فلسطين.
وفي هذا الإطار تنص الوثيقة على إنهاء جميع
المطالبات الفلسطينية تجاه إسرائيل والصراع، بل ترفض الوثيقة عودة أي لاجئ
فلسطيني. وفي حالة وقوع حالات للعودة تنشأ لجنة إسرائيلية – فلسطينية للنظر في هذه
الحالات بشرط أن لا يؤثر هذا على أمن إسرائيل.
في الصفقة فقرات عن التوراة وقصة إبراهيم
وابنه، وقيام الملك داوود بتوحيد اثنتي عشرة قبيلة يهودية في مملكة واحدة لم تدم
سوى 80 عاما. وأنه منذ 3000 سنه، وفق الوثيقة، والقدس عاصمة الشعب اليهودي. الحديث
عن ثلاثة آلاف سنة عاصمة للشعب اليهودي مليء بالأيديولوجيا، فلا القدس كانت عاصمة،
ولا التاريخ يقول ذلك. إن استخدام الدين في وثيقة أمريكية صادرة عن البيت الأبيض
يثير الكثير من الأسئلة. وفي هذه الوثيقة لا ذكر لوقائع اليوم ولا لوقائع النكبة
عام 1948 أو الحكم العربي الإسلامي في فلسطين على مدى 1400 سنه. في الوثيقة تزوير
للتاريخ، وغياب كامل للتاريخ الحقيقي.
وفي الوثيقة تركيز على أن اليهود القادمين من
الدول العربية لاجئون تم طردهم من بلادهم، وإنه من حق دولة إسرائيل الحصول على
التعويضات بسبب قيامها باستيعاب هؤلاء اللاجئين. والمعروف وفق المنظور الإسرائيلي
أن اليهود الذين قدموا لإسرائيل ليسوا لاجئين، وقد عملت الحركة الصهيونية على
إقناع اليهود للمجيء لفلسطين، بل إن معظمهم سكن في منازل الفلسطينيين العرب التي
هجروا منها عام 1948.
المطروح في هذه الوثيقة: أبارتايد عنصري يثبت
ما هو قائم اليوم على الأرض الفلسطينية من احتلال وحصار واضطهاد ومصادرة. في ظل
هذا الوضع ستستمر إسرائيل في التهويد في كل فلسطين بما فيها القدس. إن مشروعاً
كهذا يتطلب إستراتيجية مختلفة للنضال. الوثيقة تعبير عن الرؤية الإسرائيلية، أما
الرؤية الفلسطينية فيجب أن تستمد وجودها من كونها رؤية نضال ضد نظام الأبارتايد
والاحتلال والعنصرية في ظل السعي للتحالف مع كل من يعارض الظلم والتعدي.
(القدس العربي)