حينما بدأنا العمل الثوري السري في ليبيا أواخر ثمانينات القرن العشرين، اتضحت أمامنا وفق تجارب الثورات العالمية السابقة، أن الثورة تولد داخل رحم الطغيان الأسود، ليتكون أول مراحل الثورة (الوعي)؛ تليها مرحلة (هدم نظام الاستبداد) بالانتفاض وإسقاط حكم الطاغية؛ ثم تبدأ مرحلة (البناء لبديل سياسي يقبله الجميع) لنظام جديد يؤكد الحرية والعدل وتطوير المستقبل.
وإذا حدث ولم يكن هناك (وعي كامل؛ أو مشروع بديل لدولة مدنية)، فإن الثورة ستخلق (حالة فوضى) تعيد الوطن لطغيان أسوأ مما كان عليه قبل الثورة، فبعض الثورات لن تكون سوى مجرد حلقة مفرغة تبدأ ضد الطغيان لتعود إليه.
ولذا نقول: إننا في كل ثورات الربيع التي بدأت في (مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين)، كنا ننفذ المرحلة الثانية (الهدم) لأنظمة مستبدة عبر ثورات متتابعة ومتلاصقة، أما مرحلة الثورة الأولى (الوعي) فقد كانت قد بدأت منذ أكثر من 150 سنة مضت في (النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، ولو تتبعنا مفاصل تاريخ المعاناة لهذه (المنطقة المتأزمة دوما من العالم)، لاستطعنا فهم حالة الضبط الزمني لتوقيت الوعي المتشابهة، وكشفنا توحيد مراحل بناء انفجار الثورات في وقت واحد، ووصولا لعودة الطغيان كحلقة مفرغة على النحو الآتي:
1. ليس ثمة شك أن (مرحلة الوعي بالثورة) كانت قد بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، زمن إمبراطورية مريضة بالاستبداد وكانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، فتطور الوعي لقادة الفكر والحرية كبديل عن تخلف حضاري ورط الأمة في هجمة استعمارية غربية، ولتزداد حدة الوعي وتتمدد عبر تجارب مُضنية ودامية ببلاد: الشام؛ ومصر؛ والمغرب العربي، عندما هاجمت الجيوش الاستعمارية تلك الإمبراطورية، وتقاسمتها ممزقة إياها إلى دويلات متفرقة، وحكمت تلك الموجة الاستعمارية الشعوب جميعها بالمشانق؛ والإبادة؛ والمعتقلات؛ ومسخ الهوية الوطنية الجامعة.
2. بروز (مرحلة ثورات التحرر الوطنية) كمحاولات مستميتة قادها أحرار وطنيون بكل الشعوب في حروب ثورية، من أجل التخلص من حكم الاستعمار الغربي البغيض، وانتهت بتحرر وإعلان الاستقلال لكثير من تلك الدول بشكل منفصل.
3. بدء (مرحلة الاستقلال الهشة) التي ما إن تنفست فيها الشعوب، حتى تفاجأت بحالة استعمار ديني مرخص من المجتمع الدولي والأمم المتحدة ليتم اغتصاب أرض فلسطين من شعبها المعروف بمكوناته الدينية الثلاث: الإسلامي؛ والمسيحي؛ واليهودي، لينشأ كيان استعماري صهيوني، مستغلا الرموز الدينية اليهودية بخبث، فالوعي اليهودي الحقيقي يرفض كيان الدولة الصهيونية المزعومة؛ باعتبارها تزوير للفكر اليهودي المؤمن بفكرة الشتات في العالم.
4. يزداد الوضع سوءًا بانفجار سلسلة مضطربة ودامية من انقلابات عسكرية، شوهت حركات الاستقلال بالمنطقة، لتصبح فترة حكم (الانقلابات العسكرية) مرحلة مرعبة بالمشانق والاضطهاد، وكأنها (عودة لحالة الاستعمار بعناصر محلية)، ويتسبب فساد المال والسلطة بقادة الانقلابات بسقوط جيوشهم في سلسلة من النكسات والهزائم العسكرية، زادت من استعمار الصهاينة لأرض فلسطين المحتلة خارج حدود الاغتصاب الأولى.
5. طال الأمد (بحكم الانقلابيين المهزومين) لدرجة أعقبتها مرحلة سياسية شاذة هي توريث السلطة الانقلابية لأبنائهم، في هذه المرحلة حدثت أيضا حالة انقلاب فكري للجماعات الدينية؛ فالمؤسسين لهذه الجماعات رفضوا وجود الانقلابيين على رأس السلطة فكان مصير أغلبهم القتل والسجون والمطاردة، لكن خلفاء المؤسسين للجماعات كانوا براجماتيين ووضعوا المنافع أمام المبادئ، لتوصلهم منافعهم إلى حد الموافقة على توريث أبناء الانقلابيين للسلطة المنهوبة، وزاد من سوء (تنفلهم السياسي المشبوه) بهذا الباب، أنهم تولوا الدعم والإشراف على كتابة (دساتير مرحلة حكم أبناء الانقلابيين)؛ واضعين أنفسهم في خدمة ورثة القتلة بتلك (الدساتير المخجلة دينياً ودنيويا).
6. (مرحلة انطلاق ثورات الربيع) التي انتظرت بعض الأحداث لتنفجر، ولتعلن عن بدء زلزال سقوط الأنظمة العسكرية على طول (الشارع المترب) الممتد من تونس غربا؛ ومرورا بليبيا وحتى مصر شرقا؛ لينقسم خط زلزال الثورة فيصعد أحد خطوطها إلى سوريا شمالا، ويتجه الآخر بغضب نحو اليمن جنوبا، ولتنقلب الأفكار في كل (المؤسسات المخابراتية بالعالم) التي ظنت أن شعوب تلك المنطقة هي شعوب أفسدها النفط؛ والقات؛ والرقص الشرقي؛ والانقلابات المتكررة.
7. تأسيس (مرحلة بدء سرقة ثورات الربيع) فلم يكن من السهل منع البعض من القفز من سفن الطغيان الغارقة مثل: (بعض الوزراء والقضاة والقادة العسكريين بالأنظمة الانقلابية؛ ومعهم أيضاً أحزاب وجماعات دينية شرعت تأييدها للطغاة وأولادهم زمن الاستبداد)، لقد قفز هؤلاء (المتلونين) نحو منصات الثورة بميادين التحرير والشهداء بكل عواصم ثورات الربيع، ليقودوها نحو الفوضى أمام (ضعف وعي مناضليها من الشباب)، وهكذا بدأت مرحلة تزوير التاريخ وفساد المستقبل.
8. بسبب تشوه الثورات بالنفعيين بدأت مرحلة الفوضى بثورات الربيع، ولتبدأ انقلاب (الثورة المضادة) وحروبها بعناصرها البغيضة بإتحاد مكون من (انقلابيين عسكر؛ وجماعات دينية رجعية؛ وتكوينات قبلية وعشائرية متخلفة)، ليعود الطغيان وبأسوأ مما كان عليه وبمشاركة دولية، وهكذا انتشرت الفوضى بثورات الربيع، وتم استباحة السيادة الوطنية، وهنا قفزت كعادتها مرة أخرى جماعات دينية، مشوهة لنصوص مقدسة ومرددة لأخرى مشبوهة؛ نحو منصات (الثورة المضادة) لتشارك العسكر ارتكاب المذابح، وتمنحهم بركتها المرعبة (لوئد) ثورات الربيع، وهكذا اكتملت الحلقة المفرغة للثورة بالعودة (لقبول الطغيان العسكري) بأسوأ مما كان عليه بمنتصف القرن العشرين.
ليس ثمة شك أن هناك حالة تشويه للقيم المقدسة من أجل المتاجرة بها لدى بعض (الخيبريين)، لكن المعركة لم تنتهِ بعد، وإذا كانت الثورة خسرت بعض مناطقها بذلك (الشارع المترب)، فإننا نقول بكل ثقة أن الثورة لم تهزم، كما اتضح أننا بمناطق ثورات الربيع لا يجب أن نفصل بين حالات النجاح والغدر التي مرت بها كل الثورات، بل إن فضل نجاح قيام الثورة في ليبيا دون ربطها بنجاحات قيام الثورة في كل من تونس ومصر يعد قصورا متعمدا في إبراز أهم أسباب النجاح في الثورة الليبية، وكذلك الفصل بتعثر الثورة في سوريا دون ربطها بما تعانيه الثورات في كل من ليبيا واليمن والعراق ولبنان وفلسطين؛ يعد تضليلا في فهم ارتباط الثورات فيما بينها بالنصر أو بالفشل، أننا جميعا في كل الدول التي انفجرت بها ثورات الربيع، استطعنا بعد الكشف عن ما نعانيه من مكابدة بمرحلة (هدم الثورة للأنظمة المستبدة) تحقيق الفرضيات الآتية:
1. أن هناك حالة وعي كانت (مستترة بوحدة المصير منذ أكثر من 100 سنة) لدى شعوب ثورات الربيع بالمنطقة، أكد وحدتها (ألم) زمن الديكتاتوريات (الانقلابية العسكرية) المؤيدة من جماعات دينية فاسدة، والمرتبطة بجهويات وعشائر قبلية متخلفة، لكن وعي الثورة استطاع أن ينشر حالة أمل بالعمل المنظم للخلاص الحر من كل هذا الاستبداد المركب.
2. أن (الحدود الدولية) بين دول ثورات الربيع الموضوعة بترتيب استعماري دولي قديم، وعرفتها الجغرافيا السياسية للمنطقة في عدة مشاريع؛ منها مثلا (مشروع سايكس بيكو عام 1916م)، للتفريق بين الأجداد، لم تمنع الأحفاد من القفز فوقها بعد أكثر من 100 عام؛ وبدون ترتيب مسبق؛ أو أي مشروع مكتوب، لتتحد عقليات الأجيال الحديثة مع نظرائها بكل مدائن القمع المجاورة وتنفجر في ثورات ربيع متزامنة.
3. التقاء وعي الشباب الثائر المتطور في ثورات الربيع عبر استخدامهم الأمثل للأدوات والتقنية الحديثة (مثل شبكات ومنصات التواصل الاجتماعي)، في حين كان الطغاة متخلفين كعادتهم، فطاغية(ليبيا) اعتمد استخدام (السحر) لإفشال ثورة شعبه؛ وطاغية مصر استخدم (الإبل والبغال) لتفريق الشباب الثائر.
4. أن وعي الثورة قفز فوق الأيديولوجيات القديمة والمبتذلة، التي ما انفكت تعيد اجترارها النخب السياسية المترهلة، أو حتى تلك الأفكار المتشددة التي تتمسك بها بعض الجماعات الدينية المتطرفة التي مازال بعضها يعيش (زمن الفتنة الكبرى بالقرن السابع ميلادي)، لقد تورط المثقفون وأشباه الدينيين بخيانة مشروع الثورة، وانكشف انغلاقهم الفكري البائس من اجل السيطرة المفردة.
5. ثورات الربيع لم تأتِ - كما أشاع بعض المتسرعين والسطحيين - بسبب سوء الأوضاع المعيشية فقط؛ التي كانت تعانيها الشعوب من طغاتها في كل من تونس؛ مصر؛ ليبيا؛ سوريا؛ اليمن؛ السودان؛ الجزائر؛ ولبنان والعراق، وفلسطين، فمن يفسر سبب الثورات بهذا المنطق؛ يلغي الرحم الحقيقي الذي تخلقت فيه هذه الثورات العظيمة، ثورات الربيع لم تكن بسبب ألم الجوع في بطون الشعوب الفقيرة رغم غنى حكامها، ولكن كانت بسبب تطور الوعي بعقلها الثوري المعاصر بشكل مثير حتى وإن لم يكتمل بعد، ونحن مازلنا نذكر كلمة الفيلسوف الاقتصادي والاشتراكي الثوري (كارل ماركس) التي وضح فيها الفرق بين قيمة الوعي الحقيقي الذي يصنع الحرية؛ وبين الوعي المزيف الذي يطيل زمن العبودية حينما قال:
(إن الفقر لا يصنع ثورة إنما وعي الفقير هو الذي يصنع الثورة؛ فالطاغية مُهمته أن يجعلك فقيراً وكاهن الطاغية مُهمته أن يجعل وعيك غائبا).
6. أن الثورة في أي بلد بشمال أفريقيا أو الشرق الأوسط ليست مشروع أحادي مُفرد، بل كانت مشروع قومي، ولكن بشكل متطور حداثي، وبرؤية جديدة تجاوزت حدود الأديان؛ ونوعية الأجناس؛ ونبل الأعراق، فضمت بشكل مثالي غير متوقع شباباً من المسلمين والمسيحيين معا؛ ومزجت شباب العرب؛ مع شباب كل من الأمازيغ؛ والطوارق؛ والتبو؛ ووحدت المصير والمستقبل لدى شباب الأكراد؛ مع شباب كل من الأرمن؛ والسريان؛ والآراميين والآشوريين، وجمعت بين شباب المدائن والأرياف معاً، بكل مناطق ثورة الربيع.
7. أن الثورة المضادة التي يقودها (الانقلابيون؛ وجماعات دينية شاذة؛ وقبائل متخلفة) والمدعومة من اليمين العربي (ممن يخشون ثورات الربيع ببلدانهم مثل: السعودية؛ والإمارات؛ والأردن)، وبرعاية من دول غربية مثل (فرنسا؛ وروسيا)، جميعهم متحالفون ضد أي ثورة من ثورات الربيع، وهم جميعا سنجدهم متحدين مرة أخرى للنيل من ثورة الربيع بالبلد المجاور، فعناصر (الثورة المضادة) في ليبيا؛ هي نفسها عناصر (الثورة المضادة) في مصر؛ وأدوات (الثورة المضادة) في سوريا؛ هي ذاتها (أدوات الثورة المضادة) في اليمن؛ وتتكرر المؤامرة بكل الثورات القائمة الآن في (الجزائر؛ ولبنان؛ والسودان؛ والعراق؛ وفلسطين) بأدواتها الواضحة و الخفية.
اقرأ أيضا: ثورة 17 فبراير في ليبيا.. ما حققته الثورة حتى الآن وما وصلت إليه؟ (2)
ثورة 17 فبراير في ليبيا.. ما حققته الثورة حتى الآن وما وصلت إليه؟ (2)