شهد يوم الخميس الموافق 20 من شباط (فبراير) الجاري مظاهرات ضخمة في قلب العاصمة السودانية المثلثة (الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان)، للمطالبة بإعادة هيكلة القوات المسلحة والشرطية، واستنكارا لإحالة بعض صغار ضباط الجيش السوداني للتقاعد، وكان أكثر ما استفز قوى ثورة كانون الثاني (ديسمبر) التي قادت حراكا شعبيا كانت ذروته الإطاحة بنظام حزب المؤتمر الوطني برئاسة المشير عمر البشير، أن ملازم أول محمد صديق كان ضمن الضباط المحالين للتقاعد، ورغم أن صدور قرارات إحالة ضباط الجيش للتقاعد كل عام أمر روتيني، إلا أن ما لم يكن روتينيا هو أن يشمل قرار قيادة الجيش السوداني الأخير ضابطا ذا رتبة صغيرة كمحمد صديق، لأن ما ظل دارجا في القوات المسلحة هو أن تقتصر أمور مثل تلك الإحالة على ضباط من رتبة عقيد فما فوق ذلك.
لم يكن ضابطا عاديا
ومحمد صديق ليس ضابطا عاديا، بل هو أحد أهم أيقونات الثورة السودانية، فعندما اعتصم الثوار أمام مقر القيادة العامة للجيش في نيسان (أبريل) من عام 2019، انهمر عليهم الرصاص من بنايات مجاورة للقيادة من عناصر يرجح أنها تتبع لجهاز أمن نظام البشير، فتصدى لهم النقيب حامد عثمان الذي صار اسمه منذ وقتها حامد الجامد، ونجح في صدهم رغم أنه أصيب بطلق ناري استوجب إخضاعه لجراحات كثيرة.
أما الملازم محمد صديق فقد توسط الثوار المعتصمين وأعلن انحيازه للثورة الشعبية، وأمسك بمكبر صوت مخاطبا زملاءه العساكر وحاثا إياهم على رفع السلاح للدفاع عن الثوار المدنيين، وتقاطر حوله عدد كبير من الجنود رفعوا السلاح في وجه القوى التي كانت تحاول فض المعتصمين أمام قيادة الجيش، وبعدها ظل مرابطا بين الثوار المدنيين وصار من ثم صديق علما من أعلام الثورة الشعبية في السودان، ونموذجا للجندي المنحاز للوطن والمواطن، ولو تطلب ذلك عصيان أوامر قادته العسكريين.
لا أحسب أن عسكريي السلطة في سودان اليوم يخططون لانقلاب كامل على الحكومة الحالية، ولكن كل السياقات تشير إلى أنهم يمارسون انقلابا ناعما يهدف إلى تجريد مجلس الوزراء، الذي يمثل فيه المدنيون التكنوقراط أغلبية، من معظم صلاحياته
زواج متعة بين العسكر وحكومة حمدوك
وفي تقديري فإن العلاقة بين العسكريين والمدنيين في الحكومة السودانية الحالية زواج متعة، والجانب المتمتِّع فيه بالفعل هو العسكريون، فقد هبت في وجه نظام البشير ثورة شعبية عارمة، ولما أدرك كبار العسكريين أن النظام ساقط لا محالة، قرروا ركوب الموجة، بحيث يتغدوا بصغار الضباط قبل أن يتعشوا بهم، بعد أن صار واضحا أن الضباط في الدرجات الصغرى والوسطى كانوا قد انحازوا للحراك الشعبي المدني، ثم نجح كبارهم في الجلوس في القصر الجمهوري متمتعين بسلطات عسكرية ومدنية واسعة.
من الناحية النظرية فإن وزيرا الداخلية والدفاع، وكلاهما عسكريان برتبة فريق أول يتبعان عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السوداني الحالي، ولكن لم تكن لحمدوك كلمة في اختيارهما، فقد اختارهما كبار عسكريي الجيش، وليست له كلمة في الكيفية التي يديران بها شؤون الوزارتين، والأدهى من كل ذلك أن وزير الدفاع العسكري ليست له سلطة على القوات المسلحة إلا في الأمور الديوانية/ المكتبية، لأن المشير البرهان وضع تلك السلطة كاملة في يده بوصفه القائد العام لتلك القوات، وبدوره فإن وزير الداخلية لا يملك صلاحيات تخوله تدبير أمور قوات الشرطة، لأن القانون الذي سنه عمر البشير ووضع فيه شؤون الشرطة في يد "المدير العام للشرطة" وحده ما زال ساريا.
إن العلاقة بين العسكريين والمدنيين في الحكومة السودانية الحالية زواج متعة، والجانب المتمتِّع فيه بالفعل هو العسكريون
ولا أحسب أن عسكريي السلطة في سودان اليوم يخططون لانقلاب كامل على الحكومة الحالية، ولكن كل السياقات تشير إلى أنهم يمارسون انقلابا ناعما يهدف إلى تجريد مجلس الوزراء، الذي يمثل فيه المدنيون التكنوقراط أغلبية، من معظم صلاحياته، وكانت البداية بملف السلام مع الحركات التي ظلت تحمل السلاح في وجه الحكومة المركزية منذ نحو ست عشرة سنة، فرئيس وفد التفاوض عن حكومة الخرطوم هو الفريق أول محمد دقلو (حميدتي)، الذي أضفى عليه العسكريون مسمى نائب رئيس مجلس السيادة، وهو مسمى لا وجود له في كل أدبيات تشكيل المجلس، ثم كان انفراد البرهان بلقاء نتنياهو في أوغندا دون استشارة الحكومة، ورغم أنه قال لاحقا إن اللقاء كان استكشافيا فقط، وإن قرار تطبيق العلاقات مع إسرائيل متروك للحكومة كلها، إلا أن الوقائع أثبتت أنه توافق مع نتنياهو على أمر السماح للطائرات الإسرائيلية بعبور الأجواء السودانية، بدليل أن تلك الطائرات باتت فعلا تبحر عبر الفضاء السوداني.
مظاهرات الخميس الماضي في العاصمة السودانية، والتي تعاملت معها الشرطة بنفس القدر من الوحشية الذي كانت تتصدى به للمظاهرات المناهضة لحكم البشير، ستجعل الشرخ القائم بين العسكريين والمدنيين في دست الحكم في الخرطوم يتسع وقد يستعصي على الرتق، وقد تعالت الدعوات سلفا لخروج الجماهير إلى الشوارع بغزارة مجددا لاستكمال الثورة الشعبية وتأصيل "مدنيتها" بتقليم أظافر العسكر.