يعد جون
كالفن (1509- 1564) إحدى أهم الشخصيات في الجيل الثاني من الإصلاح البروتستانتي.
ولد في بلدة نوبون قرب باريس، وفي الرابعة عشرة من عمره أرسله والده الذي كان محاميا إلى جامعة باريس لدراسة القانون والعلوم الإنسانية، وفي عام 1532 تخرج ليعمل دكتوراه في القانون من مدينة أورليون شمالي لفرنسا.
أول تجربة قاسية عاشها كالفن، كانت عندما دخل والده جيرار شوفان في نزاع ضد سلطات الكنيسة، وانتهى الأمر بطرده من الكنيسة عام 1529، وبعد وقت قليل مات والد كالفن، ثم تم طرد أخوه القس من الكنيسة ومات عام 1537.
في هذه المرحلة، بدأ كالفن بالنفور من الكاثوليكية والاقتراب من البروتستانتية الصاعدة، ونشر عام 1536 نصه الشهير "مبادئ الدين المسيحي" وهي من التجارب الأولى لتوحيد نظريات البروتستانتية، عبر التشديد على تقديس الكتب السماوية واعتبارها المرجع الأساسي للديانات.
يوجه كالفن في مقدمة كتابه رسالة إلى ملك فرنسا يقول فيه:
عندما بـدأت هذا العمل يا مـولاي لم يكــــن
هنـــــاك شيء أبعد من التفكير فــي تدبيج
كتــاب، يقدم فيما بعد إلى جلالتكم، وكنــت
لا أقصد إلا أن أطرح أمامكم بعض مبــــادئ
أولية يستطيع بها المتسائلون عـــــن أمور
الدين أن يفقهوا طبيعة التقـــوى الصحيحة.
ولكننـــي عندمـــا أدركت أن غضـــب بعض
الأشرار في مملكتكم قـــــد اشتد، إلى حد
يجعلهم لا يسمحون بوجــود عقيدة صحيحة
فــي البلاد، رأيت من الــــواجب أن يستفاد
من... لقـــد عرضت اعترافـــي عليك، لكي
تعلم طبيعة تلـك العقيدة، التــي يستهدفها
هذا الغضب.
الثيولوجيا
اتفق كالفن مع لوثر في قضايا أساسية، منها: أن أساس كل لاهوت إصلاحي هو نظرية التبرئة عن طريق الإيمان وحده، حيث آمن كل منهما بالفساد الكلي للإنسان نتيجة الخطيئة، ومن السخف القيام بأعمال صالحة من أجل الخلاص، لأن هذه الأعمال تافهة وغير كافية بالنظر إلى مستوى الاستقامة التي يتطلبها الله في البشر.
ولن يكون أمام المسيحي سوى التسليم بعجزه الكلي، وبوضع خطيئته على عاتق المسيح نفسه، وهذا يعني أن الخلاص منحة عفوية لا نستحقها، وليس لها علاقة بأعمالنا الخيرة.
لكن كالفن اختلف في هذه النقطة عن لوثر، حول الأسرار المقدسة والكنيسة وعلاقة الله بالإنسان، حيث قاد تعظيمه سيادة الله المطلقة إلى القول بقدرية الخلاص والهلاك حتى ما قبل الخطيئة، وتصنيف الناس مسبقا على هذا الأساس.
إن هذه القدرية الدينية سيكون لها نتائج سياسية مذهلة على المدى البعيد، وقد أورد عزمي بشارة في الجزء الثاني من كتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" أن هذه القدرية كانت سببا في تجاوب ثقافتها مع العلمنة الرأسمالية، فالكنيسة عنده كما عند اللاهوتيين / الفلاسفة الإسمانيين ليست ضمانا للخلاص، الخلاص هو نعمة إلهية.
وأدى ذلك إلى نزع السحر عن علاقة الدين بالعالم، فلم تطلب الكالفينية ببعض أعمال الخير كي ينال الإنسان الخلاص، بل طلبت منه نظاما كاملا ومنضبطا من حياة الفضيلة والقداسة.
هذا هو الفرق يتابع بشارة، بين المؤمن الكاثوليكي الذي لا يغير إيمانه نمط حياته كثيرا، ويقوم بتنفيذ تعاليم الكنيسة، ويبقى نظام حياته عاديا، أما البروتستناتي الكالفني، فطلبت منه الكنيسة أن يغير نظام حياته، وأن يكون مؤمنا في كل لحظة وأن يمارس الإيمان في حياته وعمله.
أيضا، اختلف كالفن عن لوثر، بتأكيده حرية الإرادة الفردية، وعلى المساواة الأخلاقية لمجمل النشاط الإنساني، وقد شكل هذا انقلابا إبستمولوجيا إن صح التعبير على التقاليد الفكرية الكاثوليكية، فلن يعود بعد ذلك أن تتربع القيم الدينية على رأس القيم، بل ستكون مساوية لكل القيم الإنسانية الأخرى، بما فيها القيم السياسية.
ووفقا لـ برتران بادي ستصبح العلاقة بين الدولة والمجتمع تبعا لذلك ضمن علاقة أفقية متساوية، وبما أن الدولة لم تعد تعلو على المجتمع كما كان الأمر في السابق، فقد أصبح المجتمع عمليا متغلبا على الدولة، وفي هذا خروج على تعاليم لوثر الذي منح السلطات الزمنية دورا كبيرا.
وإلى أن تجد هذه علمنة طريقها الفعلي على الأرض، كان أمام كالفن طريق طويل سمته التشدد الديني الراديكالي، وهذه أحد أهم المفارقات الفكرية للكالفينية.
اختلف كالفن مع لوثر أيضا في استبعاده حضور المسيح الفعلي في سر الإفخاريستا ـ سر التناول أو سر القربان وهو أحد الأسرار السبعة في
الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسة وهو تذكير بالعشاء الأخير الذي تناوله المسيح ـ فقد افترض كالفن الحضور الافتراضي وليس الحقيقي للمسيح.
على أن التمايز المهم بينهما كان متعلقا بمسألة الطاعة والعصيان: في البداية اتفق لوثر وكالف على واجب الطاعة للأمراء الزمنيين، كونهم جزء من الاختيار الإلهي، واتفقا أيضا على أن العصيان يكون عندما تخرج السلطات الزمنية عن مجالها الدائم وتجرؤ على تقديم قضايا دينية تناقض كلمة الله، كما اتفقا على أن العصيان لا يجب أن يتحول إلى مقاومة عنيفة، واتفقا على أن السلطات الوسيطة (القضاة الثانويين) من حقهم أن يثورا على الأمير، وهذا يعني أن لوثر وكالفن يحصران المقاومة العنيفة فقط بالنخب السياسية وليس من حق الشعب خوض الثورة.
لكن الأحداث اللاحقة في خمسينيات وستينيات القرن السادس عشر، ستجعل الكالفينية تبتعد كثيرا عن اللوثرية في هذه المسألة، وتؤسس شرعيا للثورة.
المسألة الأخرى المهمة التي تميز فيها عن لوثر، كانت متعلقة حول دور الكنيسة، ففيما كان لوثر يفترض كنيسة غير منظورة تترك للأمير المسيحي أمور تنظيم الدين في الحياة المدنية، كان كالفن يقول بالكنيسة المنظورة والتأكيد على سيادتها في الأمور الزمنية إزاء الدولة وحقها في التشريع.
وليس هناك خلاص خارج نطاق هذه الكنيسة، والدولة والكنيسة مقدستان، وقد خلقهما الله، لكي يعملا في انسجام كالروح والجسد، لمجتمع مسيحي واحد، وعلى الكنيسة أن تضع القواعد، التي تنتظم كل التفاصيل الخاصة بالعقيدة والعبادة والأخلاق، وعلى الدولة أن تدعم هذه القواعد، باعتبارها ذراع الكنيسة الطبيعي.
المناخ الديني
حققت البروتستانتية، بعد وفاة تسيفنغلي مكاسب مهمة في سويسرا الفرنسية، مع الإصلاحي غيوم فاريل الذي اتجه نحو جنيف التي كانت ما تزال كاثوليكية تحت سلطة مزدوجة من أسقفها ومن دوق سافوا.
استطاع فاريل تحويل جنيف نحو البروتستانتية، ممهدا الطريق أمام كالفن لتحويلها إلى مدينة دينية مثالية وصارمة في أحكامها.
في عام 1536 زار كالفن مدينة جنيف والتقى فيها بـ فاريل الذي طلب منه البقاء في المدينة لمساعدته في تعزيز الإصلاح الديني، ووافق كالفن على ذلك.
وكان ثمة نزاع في المدينة بين دعاة الإصلاح وبين من يرفضون أية هيمنة دينية على المدينة، وسرعان ما تفجر الصراع، الأمر الذي دفع مجلس المدينة إلى إصدار أمر بطرد فاريل وكالفن من جنيف.
بعد ذلك بعامين، وجه أهل جنيف دعوة لـ كالفن للعودة إلى المدينة من أجل تخليصهم من حالة الفوضى التي غرقت فيها، وفعلا وصل كالفن إلى جنيف عام 1541، وباشر على الفور بتنظيم وضع المدينة الديني، ومن شروط هذا التنظيم إجبار كل شخص على أداء قسم الولاء للإيمان الجديد.
ووضع كالفن وفاريل نظام التأديب الكنسي، وهو عبارة عن نظام قاس جدا يتدخل في جميع تفاصيل الحياة الخاصة للفرد، وفرض الإعدام على كل مخالف لعقيدتهم، وفعلا تم إعدام نحو ستين شخصا لأسباب دينية، ونفي نحو خمسة وسبعين شخصا، وسجن نساء لارتدائهن قبعات غير لائقة، وحرمت الفنون باستثناء الموسيقى الدينية.
وكان كالفن يرسل كل سنة قسيسا من الكنيسة لزيارة كل بيت وكل أسرة، للتأكد من التزامهم الديني، وكان له الحق في استدعاء أي شخص للمثول أمامه لاختباره، وكان في وسعه زجر الآثمين، أو حرمانهم من الغفران علنا، وكان الجميع مجبر يوم الأحد على حضور العظات في الكنيسة.
تم تحريم المقامرة ولعب الورق والتجديف والسكر والتردد على الحانات والرقص، والأغاني الخارجة عن الدين، والإفراط في اللهو، والبذخ في العيش، والتبذل في اللبس، كما حدد القانون اللون المسموح به في الملابس ومقدارها، وعدد الأطباق المسموح بها في الوجبة الواحدة.
والتزم أهالي المدينة بالعمل الشاق والرصانة والاجتهاد والاعتدال في النفقة، وأصبح الاقتصاد قانونا دينيا.
مع أن حكم كالفن لجنيف لم يستند إلى القانون أو القوة، بقدر ما استند إلى الإرادة والخلق والإيمان الصارم، إلا أن النظام التأديبي الصارم الذي وضعه، كان تجسيدا للإرهاب الديني المباشر.