الكتاب: رأسمالية الكوارث.. كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشر؟
المؤلف: أنتوني لوينشتاين
المترجم: أحمد عبدالحميد
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/الكويت ـ 2019
تغول الشركات الكبرى ودورها المباشر وغير المباشر في خصخصة الخدمات الحكومية، وتأثيرها العميق والمدمر في تفاصيل حياتنا السياسية والاجتماعية والبيئية، هي ما يناقشه ويوثقه كتاب الصحفي وصانع الأفلام الأسترالي أنتوني لوينشتاين.
يرصد لوينشتاين عبر جولاته الاستقصائية في العديد من الدول التي تشهد صراعا مريرا لاستعادة التوازن، بعد كوارث طبيعية أو اقتصادية ألمت بها مثل هاييتي واليونان، أو تلك التي أنهكتها الحرب مثل أفغانستان، حجم توحش وفساد الشركات الأجنبية، التي لم تعد تكتفي بتحقيق أعلى استفادة من المصائب، بذريعة تقديم العون والمساعدة على التنمية، إنما باتت استراتيجيتها تتمثل بإطالة أمد الأوضاع البائسة ما أمكن ذلك، حتى يظهر في الأفق مكان جديد تنتقل إليه مشاريع النهب والاستنزاف، ودائما تحت أهداف زائفة تدعي المساهمة في تطوير الخدمات للمجتمعات المحلية وتوفير حياة أفضل.
إن الشركات، كما يقول لوينشتاين، باتت أكثر قوة من الدولة "صارت في أغلب الأحوال هي التي تملي إرادتها وتفرض شروطها (على الدولة). وهناك وضع منافس تعتمد في إطاره الدولة والشركات متعددة الجنسيات، كل منها على الأخرى بنحو متساو، يسمح فيه للشركات بأن تنمو لتصبح كبيرة فقط بتكرم من السياسيين الانتهازيين".
حتى اليابان
"رأسمالية الكوارث" مصطلح صاغته الكاتبة الصحفية الكندية نعومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث "الذي تقول فيه إن برامج الخصخصة، وتخفيف الرقابة الحكومية أو إلغاءها، وتخفيض الإنفاق على البرامج الاجتماعية، غالبا ما تفرض بعد وقوع كوارث ضخمة، وقبل أن يتمكن ضحايا هذه الكوارث من استجماع قواهم للمطالبه بما هو حق لهم. وما يقوم به لوينشتاين هو التوسع في هذه "الفرضية"، فيشمل إلى جانب "الكوارث البيئية والحرب والتكاليف الخفية للمعونة الأجنبية.. ما يحدث لدى خصخصة قطاع الموارد ومراكز الاعتقال. فهاتان الصناعتان تنتعشان في القرن الحادي والعشرين، وتعملان في ظل تجاهل تام مفزع لحقوق الإنسان".
في الجزء الأول من كتابه، يعرض لوينشتاين أمثلة فاقعة للاستغلال الذي تمارسه الشركات والحكومات الأجنبية في باكستان، وأفغانستان، وهاييتي، واليونان، وبابوا غينيا الجديدة، حيث تتحمل شعوب هذه الدول أعباء اقتصادية هائلة في مقابل أرباح لا تتوقف، تذهب إلى جيوب نخب محلية وكيانات أجنبية. ويلفت إلى أن هذه السياسات "الرأسمالية المفترسة" لم تقتصر ساحة ممارساتها على الدول النامية فقط، بل إنها طبقت أيضا في دول متقدمة في "أوقات الضعف الشديد" كما حدث في اليابان في أعقاب الزلزال وإعصار تسونامي في العام 2011، حيث "لم يمر وقت طويل لكي يبدأ معلقون في الدعوة إلى الإصلاح، وهو شيفرة تشير إلى تنفيذ برنامج خصخصة جماعية، من شأنها أن تطلق يد قطاع الأعمال الكبيرة في إعادة تنمية المناطق المدمرة، وإعمارها بمساعدة تخفيضات ضريبية سخية".
"أربعة تريليونات من الدولارات هو أفضل تقدير للتكلفة الإجمالية للحرب على الإرهاب، بما فيها الحرب في العراق وأفغانستان، كان الجزء الأكبر من هذه التكلفة من نصيب شركات مقاولات وهمية. ويعد هذا واحدا من أكبر تحويلات الثروة في التاريخ الأمريكي"
لذلك يركز لوينشتاين في الجزء الثاني من كتابه على مناقشة دور هذه
السياسات في دول غربية وغنية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا، إذ صارت الولايات المتحدة وبريطانيا "من الدول الرائدة في العالم في صناعات خصخصة السجون ومراكز الاعتقال"، التي أثرت منها شركات متعددة، متقصيا كيف ساهمت "سياسات الضغط والأيديولوجيات وروح المعاقبة، في إنتاج واحدة من أكثر التجارب تدميرا في العصور الحديثة: السجن الجماعي". في حين خصخصت أستراليا جميع مراكز الاحتجاز الخاصة بطالبي اللجوء، التي تديرها الآن شركات متعددة الجنسيات.
البنتاغون يدفع للمتمردين
في كتابه الصادر في العام 2014 بعنوان "ادفع أي ثمن: الجشع، القوة، والحرب الأبدية" يقول الصحفي في جريدة "نيويورك تايمز" جيمس ريزن، والحائز على جائزة بوليتزر، إن "أربعة تريليونات من الدولارات هو أفضل تقدير للتكلفة الإجمالية للحرب على الإرهاب، بما فيها الحرب في العراق وأفغانستان، كان الجزء الأكبر من هذه التكلفة من نصيب شركات مقاولات وهمية. ويعد هذا واحدا من أكبر تحويلات الثروة في التاريخ الأمريكي". من هذه الشركات شركة "دين كورب" التي اعتمدت الولايات المتحدة عليها في إجراء التدريبات اللازمة لقواتها العسكرية عبر العالم، لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).
يقول لوينشتاين إن وزارة الخارجية الأمريكية أسندت لهذه الشركة عقودا تزيد قيمتها عن المليار دولار، لكي تساعد في تعزيز قوات الأمن الأفغانية، وهي المهمة التي منيت بفشل ذريع، إذ "تفشت ادعاءات خطيرة حول الإهدار، وسوء الإدارة، والمغالاة في زيادة أسعار الخدمات، فضلا عن أن الفعالية والثقة بقوات الأمن الأفغانية ظلت موضع شك"، وهي أمور أكدها تقرير للأمم المتحدة في العام 2009. ورغم ذلك تمكنت الشركة في العام 2012 من تأمين عقود بأكثر من 72 مليون دولار لتدريب طيارين في القوات الجوية الأمريكية، و"قدمت الخارجية الأمريكية ما يقرب من 4 مليارات دولار لدعم إعادة الإعمار في أفغانستان في الفترة من 2002 إلى العام 2013، كان نصيب دين كورب منها 2.7 مليار دولار".
يذكر لوينشتاين أسماء العديد من الشركات وطبيعة أنشطتها وقيمة عقودها الباهظة، ويشير إلى ارتباط بعضها بسياسيين أمريكيين مثل شركة "كي بي آر"، الفرع السابق لشركة هاليبيرتون التي تولى إدارتها لفترة ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، التي تلقت منذ بداية الحرب الأفغانية في العام 2001 عقودا بمئات الملايين من الدولارات.
ويتحدث عن مهام استخباراتية وأمنية وهمية لهذه الشركات، فضلا عن علاقاتها المريبة بأمراء الحرب. ويقول، إن تقريرا للحكومة الأمريكية صدر في العام 2010 أكد أن "عددا كبيرا من المقاولين الذين يتقاضون أموالا من أمريكا كانوا في الحقيقة، يساعدون التمرد الذي حاربه الغرب، وذلك عن طريق دفع أموال إلى شركات أمنية يسيطر عليها أمراء حرب محليون مقابل توفير الحماية لشحنات البضائع التي تحتاج إليها قوات المساعدة الدولية"إيساف". وأدى هذا إلى تمكين أمراء الحرب بتزويدهم بالمال والشرعية"، ويتابع أن مسؤوين أميركيين في كابول، قدروا أن ما نسبته 10% على الأقل من ميزانية الخدمات اللوجيستسة للبنتاغون، كانت تستخدم لسداد مديونيات مستحقة للمتمردين.
مقاولو السجون يتحكمون بالمشرعين
الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها كانت وما تزال في قلب دوامة الخصخصة، وجشع الشركات وتحالفاتها المرعبة مع صانعي السياسات. ويظهر ذلك جليا ومفزعا في ما يتعلق بقطاع السجون ومراكز الاحتجاز.
في العام 2014 أصدرت منظمة هيومان رايتس ووتش تقريرا حول العدد المهول من الأمريكيين الذين يواجهون عقوبة بالسج،ن بسبب ارتكابهم جرائم صغيرة وجرائم غير عنيفة، ووفقا لتقديرات صحفية فإن "العدد الذي كان يوجد في قبضة نظام العدالة الجنائية من الأمريكيين السود في السجون، وتحت المراقبة أو على أساس الإفراج المشروط، كان أكثر من ذلك العدد الذي كان موجودا في زمن العبودية في العام 1850. وبصورة شاملة فإن عدد الأشخاص الذين يخضعون لنظام الإشراف الإصلاحي في أمريكا أكثر من ستة ملايين".
يقول لوينشتاين إن شركات السجون الخاصة وجدت فرصة عظيمة لتحقيق أرباح هائلة من وراء هذه الأعداد الكبيرة من الرجال والنساء خلف قضبان السجون، لذلك ظلت إمكانية إجراء إصلاحات جادة على نظام الأحكام بعيدة المنال، لأن مقاولي السجون يمارسون ضغطا على المشرعين لحملهم على إصدار أحكام قضائية أكثر صرامة. كما أن صناعة السجون لم تقتصر على بناء الزنازين وإدارة المرافق بل شملت أيضا إنتاج المعدات، ومواد الطلاء، والدروع الواقية للجسم، والخوذات العسكرية، والذخائر.
إن شركات السجون الخاصة وجدت فرصة عظيمة لتحقيق أرباح هائلة من وراء هذه الأعداد الكبيرة من الرجال والنساء خلف قضبان السجون
يذكر هنا لوينشتاين أن واحدة من أكبر شركات مقاولات السجون الخاصة هي شركة "سي سي إيه" أرسلت في العام 2012 رسائل إلى 48 ولاية تعرض شراء سجونها، "شريطة أن تضمن هذه الولايات نسبة إشغال بواقع 90% لهذه السجون، وتوقيع عقد مدته عشرون عاما لإدارتها. وأبرمت بعض الولايات اتفاقيات مع شركة "جيو جروب" لكي تضمن من الناحية التعاقدية أن أسرة السجون ستكون مملوءة بنسبة 100% كل ليلة".
جدير بالذكر هنا أن " جيو جروب" التي تدير مراكز احتجاز وتعد من أكبر المقاولين في هذا المجال، عينت في العام 2014 جولي مايرز وود في مجلس إدارتها، وهي التي كانت في الفترة من 2006 ـ 2008 تشغل منصب سكرتير مساعد وزير الأمن الداخلي الأمريكي، حيث تولت مسؤولية إدارة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك الأمريكية.
استراتيجية الربح بأي ثمن
يريد لوينشتاين من كتابه هذا أن يكون صرخة تفضح هذه المنظومة الجشعة، من الشركات المتعددة الجنسيات، والمسؤوليين الحكوميين، والعاملين المتواطئين في المنظمات غير الحكومية، التي تسعى لتحقيق الربح بأي ثمن. وهي كما يرى تتبع كلها استراتيجية واحدة "المغالاة في التهديدات، سواء كانت من صنع الإنسان أم الطبيعة، ثم إطلاق العنان لمقاولي القطاع الخاص غير الخاضعين للمساءلة باستغلالها".
يقول: "إذا ما كانت هناك حالة من عدم اليقين الاقتصادي، فعندئذ دع الشركات الأجنبية تعدن أي مورد متاح، ثم اجلس وشاهد كيف تغادر معظم الأموال البلاد، واحرص على أن تستمر الحروب، بما فيها تلك التي تفجرت شرارتها الأولى لأسباب واهية، أطول فترة ممكنة لضمان العمل المستمر للمرتزقة، والحراس ومسؤولي الاستخبارات. إن صناعات مثل التعدين، والبناء، والأمن يغذي بعضها بعضا. إنه قطار الكسب السهل العالمي، فعندما تستنزف موارد دولة وتجف منابعها ينتقل القطار إلى الوجهة المربحة التالية".
هل يجب أن نتفاجأ الآن إذا علمنا أنه من بين 175 من أكبر الكيانات الاقتصادية في العالم في العام 2011 بما في ذلك الدول، كانت هناك 111 شركة متعددة الجنسيات!.
مع ذلك، فإن لوينشتاين يلح على فكرة أن التغيير ممكن حتى وإن كانت التحديات كبيرة، لكن "عكس مسار الاتجاه الذي تسلكه الرأسمالية المستغلة" يتطلب، كما يقول: "تقديم بديل لما يبدو أنها مفاتنها المغرية"، ويتطلب كذلك خوض معركة للمطالبة بالشفافية من قبل الشركات والحكومات، التي تجني الأرباح من ممارسات استغلالية، وبنظام اقتصادي أكثر مساواة وديمقراطية.
ويؤكد لوينشتاين أن "الرأسمالية المفترسة" تواجه مقاومة في كل أنحاء العالم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يذكر هنا تجربة هامبورغ ثاني أكبر المدن الألمانية، التي صوت سكانها في العام 2013 لصالح استعادة السيطرة على شبكات التدفئة والكهرباء والغاز، التي بيعت لشركات خاصة قبل ذلك بعقود.