يعز على المرء أن يكتب عن
علماء أصحاب رسالة (وهم قليل) عند موتهم في مجتمع يحتاج من التنوير والعلم الكثير. ومن المهم أن أقول إن أستاذنا الدكتور
محمد عمارة شكل بالنسبة لجيل ممتد موسوعة علمية وفكرية، وإنتاجا بحثيا غزيرا عميقا ورصينا، ومشروعا فكريا نهضويا منفتحا يعبر عن طاقات الأمة في تراثها القديم وفي فكرها الحديث والمعاصر، وموقفا سياسيا مناهضا للاستبداد وداعيا للحرية، كما كان مرابطا على ثغر فكري ناضل ونافح عنه بكل قوته وقدرته وإمكاناته العلمية والبحثية فأفاض وأفاد. ورغم هذا العطاء الممتد والإسهام الفكري الوافر؛ فإن البعض الذي يتسرع في الأحكام ويتوقف عند قطرة في بحر علمه الفياض أو موقف هنا أو هناك يقيمه تقييما شخصيا، مبتسرا ومنتزعا من سياقاته ليعلن عن موقف أيديولوجي، متهما أستاذنا "عمارة" نفسه بالأدلجة بل والتطرف.
وإذا بحثت في بضاعة هؤلاء في القراءة؛ فربما شاهد هؤلاء تسجيل فيديو أو استمعوا من آخرين فرددوا عنهم أحكاما سماعية لا تعبر بحال عن عمل وتقييم منهاجي أو موضوعي، ولكنه هجوم غير مسند نظنه الآن، في ظل ساحات التواصل الاجتماعي المفتوحة التي ترد فيها أحكام وتعميمات خطيرة من جراء حالات مسيسة وأفكار مغلقة ومؤدلجة وأحكام قاصرة ظالمة.
ولا أدري أي جرأة هذه إلا أن تكون حالة من الاستخفاف بالقيم والقامات والمقامات من جراء بيئة استقطابية اختلط فيها الحابل بالنابل، والعلم بالهواجس والفكر بالوساوس، فمكنت في البعض أمراضا مزمنة تبدو في تلك الأحكام المرسلة من غير حجة، والتعميمات الجائرة من غير برهان، حتى أن البعض قد أسند إلى الدكتور عمارة، هكذا وبجرة قلم، تهما تتعلق بجريمة قتل لمفكر آخر. كل ذلك صار يشكل وضعا فكريا مسموما أنتجته بيئة سياسية واجتماعية وثقافية؛ تشكل في حقيقة الأمر حالة من حالات الاستقطاب العميم التي وطّنت للاستبداد المقيم.
وفي حقيقة الأمر أننا حينما ننظر إلى هذا العالم الفذ وإنتاجه الفكري وتحولاته ومراجعاته الثقافية، فإنها تشكل في واقع الأمر حالة معرفية وجب فيها أن نتلمس المعنى القويم والمغزى العميق. فهل يمكن أن نهيل التراب على إنتاج فكري يعد بعشرات الكتب ومئات البحوث، والتي تعبر عن فكر على حرية التبني والقدرة على النقد والمراجعة حتى لو كان هذا النقد ذاتيا ومراجعة لمسارات فكرية ومرجعيات معرفية؟ إلا أن البعض الذين يجيدون المعارك المؤدلجة والمواقف المسيسة؛ لا يقيمون لكل ذلك وزنا، ولا يقيمون للمنهج قيمة ولا للرأي العدل والاستقامة العلمية طريقا وسبيلا.
وقد سبقني للكتابة عن فضل هذا العالم الفذ وعن الرد عنه في ظل تلك الهجومات الغادرة والانتقادات المغامرة التي لا تجد عمقا وتفتقد ميزانا وحجة؛ الشاعر محمد طلبة رضوان، في مقال عميق ودقيق.
ولو قرأ المهاجمون ما عكف عليه هذا المفكر الكبير الذي رد الاعتبار لمفكرين عظام ومدارس فكرية جليلة في فكرنا التراثي القديم والفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، لأدركوا ماذا ترك لنا هذا الرجل من قيمة فكرية وعلمية يجب أن تنهل منها الأجيال وتتعلم عليها. إلا أن البعض ساغت له ممارسة اختزالاته المعرفية وتخندقاته الفكرية وأمراضه الثقافية، لينشرها جزافا ويطلقها من غير حد منهجي أو ضبط موضوعي. ولم أر في هؤلاء الذين ترصدوه إلا أن يكونوا أحد ثلاثة: مدعي ثقافة يرى في الدين والتدين تخلفا، فيشير إلى عمارة المستنير حينما كان ماركسيا وإلى عمارة الفاشي حينما صار إسلاميا، وآخر يدخل إلى الميدان ويهجم بالتعميم والاتهام من غير حجة أو بينة ضمن ثقافة سمعية زائفة لا تغني ولا تسمن من جوع، وثالث يعرف قيمة هذا الرجل في الكفاح وبناء صروح الحرية والعدل ومجابهة أحوال العبودية وكل مسالك الظلم، وهو من زبانية المستبد أو منافقيه لا يحسن إلا أن يكون عبدا له وفي ركاب ظلمه، فيذهب هؤلاء جميعا جفاء
ويبقى من ينفع الناس ويمكث في الأرض بفكر الحرية وسيرة العدل ومجابهة الظلم.
إن أخطر ما يشير إليه هذا الأمر إنما يتعلق بذلك الاحتراف العجيب والغريب لتبديد القيم الفكرية والمعرفية، والقامات الثقافية والنهضوية في الأمة لمصلحة المستبد الغاشم، إما بالغفلة أو بسبق إصرار وترصد، وفي كلتا الحالتين فإنه يصب في تبديد قيمنا وقاماتنا الفكرية التي تعبر عن قيم أصيلة من الحرية والعدل، وتمكن بشكل أو بآخر لحال من العبودية والاستبداد والظلم.
ونظن أن اهتمامه بتقديم وجمع وتحليل الأعمال الكاملة للكواكبي والأعمال الكاملة لكل
المفكرين الذين دعوا إلى الحرية والعدل؛ لم يكن إلا مشروعا فكريا نهضويا شارحا للنصوص الحرة، وعلى الذين يغفلون القيمة أو يتعمدون الاتهام أن يعرفوا أنه لا يصيب مفكرا رصينا أو عالما فذا كمحمد عمارة؛ أي من هذه التعميمات التي تعبر عن قصور في المعرفة وغبش في المواقف لا ينال من صرح شيده علماء كأمثال "عمارة"، يتعرفون ويعرفون حقيقة الوظيفة الكفاحية للعالم التي يقومون بها وعليها.
وكأنه يشير بحديثه عن أزمة العقل العربي إلى هذه الحال حينما يتساءل: هل يعتبر العقل هو صانع الأزمة أم ضحية لها؟ وأقر أن من أهم أزماته ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وإلغاء الآخرين، وكيف مثلت تلك الإشكالية السبب الرئيسي في الفرقة الفكرية بين الهيئات والمؤسسات والعلماء بل والدول والحضارات. وأشار الى الازدواجية الواضحة بين الفكر النظري والسلوك العملي والخطورة الكبيرة المترتبة على ذلك؛ من تحويل القيم الدينية لمجرد مواعظ لاهوتية بعيدة عن الشارع والسلوك العام على مستوي الأنظمة العربية. وأكد أن هذه الأزمة ليست جديدة بل ترتبط بعصور التخلف الحضاري والضعف العام للأمة، وكذا التغريب والاستلاب الحضاري المرتبط بالغزو الاستعماري الغربي لبلاد المسلمين. وفي رأيه ورؤيته أن العقل ليس عضوا في الإنسان، بل هو "فعل التعقل"، وأن تحرير العقل وماهية التحرير من أهم أزمات الفكر المعاصر.
وقد وجد الكثير من العلماء في السكوت عن إعلان موقفهم من أحداث جارية في
مصر بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو مندوحة، إلا أن "عمارة" خرج ليعلن بيانا للناس، مؤكدا أن ما حدث هو انقلاب عسكري على التحول الديمقراطي الذي فتحت أبوابه ثورة 25 يناير 2011، والذي تمت صياغته في الدستور الجديد الذي حدد قواعد التبادل السلمي السلطة عن طريق صندوق الاقتراع كما هو متبع في كل الدول الديمقراطية، وأن هذا الانقلاب العسكري يعيد عقارب الساعة في مصر إلى ما قبل ستين عاما، عندما قامت الدولة البوليسية القمعية التي اعتمدت سبل الإقصاء للمعارضين، حتى وصل الأمر إلى أن أصبح الشعب المصري كله معزولا سياسيا، يتم تزوير إرادته، ويعاني من أجهزة القمع والإرهاب، وأن هذا المسار الذي فتح هذا الانقلاب أبوابه لا يضر فقط بالتحول الديمقراطي للأمة، وإنما يضر كذلك بالقوات المسلحة، عندما يشغلها عن مهامها الأساسية. وفي الهزائم التي حلت بنا في ظل الدولة البوليسية عبرة لمن يعتبر".
من المهم هنا أن نذكر قيمة هذا الرجل في بنيان النهضة والحرية حينما نتتبع مواقفه في مواجهة الاستبداد والصدع بكلمات الحق، لا يخشى في لله لومة لائم وفي كل موقف للدفاع عن الحق الثابت والحرية الحقيقية كنت تجد محمد عمارة في الصف الأول، يتصدر المشهد بكتاباته التي تقطر حرية وترفض كل استبداد وتقف في وجه كل طاغية.