يمثل الراحل الدكتور محمد عمارة ظاهرة ثقافية وإسلامية فريدة جمعت عدة ثنائيات. فقد جمع رحمه الله بين العمل
الفكري المنظم الشاق والظهور الإعلامي المنضبط، بالإضافة للكاريزما الشخصية والبعد عن المناصب والوظائف، رغم أن هذه الصفات تؤهله للكثير من هذه الوظائف. لكنه آثر الوفاء والولاء للفكر والبحث رافعا راية الاستقلال الفكري والشخصي.
يمثل عمارة جيلا من
العلماء يعرفون معنى الكلمة وقيمتها في الخطابة وطرق الأداء، ليجمع أسلوبه بين الإقناع والإفحام والمعلومات والشرح والتبسيط والتيسير. كما استخدم مهارات يتم تدريسها للمذيعين من حيث لغة الجسد وحركة العين وتعبيرات الوجه ونبرات الألفاظ والكلام، وهي مهارات كان يتوارثها قديما العلماء والدعاة والسياسيون والمفكرون لاستخدمها في الخطابة السياسية والمناظرات الفكرية. وبدأت هذه المهارات في التلاشي شيئا فشيئا مع التأميم والتجريم الممنهج للممارسة السياسية، وغياب الحوارات والمناظرات الفكرية العميقة، وإن بقيت كمهارات إعلامية متخصصة في دورات وأقسام التقديم الإذاعي والتلفزيوني.
أهَّلت هذه الملكات الدكتور عمارة ليكون وسيلة إعلامية مستقلة بذاتها وحضورا شخصيا طاغيا أينما حل، ولم يوظفها في النيل من خصومه في معارك استهدفت شخصيته ودارت رحاها خلال العقود الماضية، بل حفظها لتخدم رسالته الأساسية في الدفاع عن الإسلام. وهو بذلك لا يخفي إعجابه، بل وينسب الفضل في ذلك لاثنين من أشهر أعلام الدعوة في
مصر، وهما الشيخين محمد الغزالي ومحمد متولي الشعراوي رحمهما الله. ويقول في احتفالية أقيمت لتكريمه بالقاهرة، قبل عشر سنوات، إن الشيخ الشعراوي احتضنه في عزاء شيخ الأزهر الراحل جاد الحق علي جاد الحق مهللا: "ربنا يجعل فيك العوض".
هذا الحضور الإعلامي والجماهيري الكبير لم ينزع الدكتور عمارة من مشروعاته الفكرية التي ظل معتكفا عليها طوال حياته. وهو في هذا يعطي درسا لكثير من القائمين على الدعوة الذين يقضون في الظهور الإعلامي أضعاف ما يقضونه في القراءة والبحث والتعلم، ويستهلكون طاقاتهم في معارك ومشاحنات تنجم عن مثل هذا الإفراط. فالعلم أصل والظهور الإعلامي للداعية والعالم فرع، وهو مجرد وسيلة له وليس مهنة.
وقد أعطى الدكتور عمارة نموذجا في هذا الميدان، إذ استطاع أن يثبت أن العمل الفكري الدؤوب يمكن أن يكون عملا مستقلا يدر دخلا منتظما ويقيم حياة وأسرة رغم الصعوبات التي يكتنفها هذا الأمر. وهو بذلك يقيم حجة على كثير ممن آثروا بيع بضاعتهم العلمية ليشتروا بها ثمنا قليلا بذريعة شظف العيش.
استطاع الراحل الكبير أن يجيب على عدة أسئلة صعبة مثلت تحديا لكثير من الشباب في مواجهة التشكيك المستمر في الدين والتاريخ، والتي تفتح بابا للتشكيك في الدين نفسه. منها فكرة إدانة التاريخ الإسلامي بسبب الممارسات السياسية الظالمة التي اكتنفت عديدا من العهود والحقب في القرون السابقة. ولم يكن رده دفاعا عن هذه الممارسات وتنزيها للسلطة السياسية في الإسلام تاريخيا كما يفعل كثيرون، بل نشر فكرة هامة مفادها أن الأمة والمجتمع هما أصحاب الإنجاز الحقيقي للمسلمين طوال تاريخهم، وليس الحكومات والحكام. وذلك على مستوى المؤسسات، مثل الوقف أو مستوى الميراث العلمي والفكري والشرعي الذي قام به علماء مستقلون عن السلطة؛ اضطر كثير منهم لدفع ثمن ذلك غاليا من حياتهم وحرياتهم، مثل الإمام أحمد بن حنبل.
كنت أتمنى لو أن الدكتور عمارة قد أتقن إحدى اللغات الأجنبية، فلربما أعانه ذلك على قراءة الغرب بطريقة أقل حدة في المواجهة مما ورد في كتاباته. إذ ظلت أفكاره حول الغرب بشكل عام أسيرة للمرحلة الاستعمارية العسكرية، وربما كان ذلك من تأثير المرحلة اليسارية التي مر بها في حياته. وهو في النهاية ابن عصره وزمانه وقام بواجب وقته رحمه الله.