يعكس ترشيح بيرني ساندرز
للانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية تحولات عميقة في الثقافة
والأيديولوجيا السياسية في الولايات المتحدة والغرب، هناك أيضا جيمي كوربن في
بريطانيا، ورالف نادر. إذ يبدو واضحا نمو تيارات سياسية وأيديولوجية أقرب إلى
اليسار، أو هي يسار جديد، وهي ظاهرة لا تقل عمقا وأهمية عن ظاهرة صعود اليمين أو
في عبارة أصح عودة اليمين.
لقد هيمنت تيارات الوسط السياسي الليبرالي
(العبارة تشمل المحافظين أيضا) على الحياة السياسية في الغرب، وكان ينظر إلى
اليمين القومي والأصولي أو اليسار الشيوعي والأناركي كأزمة الليبرالية السياسية
والاقتصادية، وظلت الليبرالية الوسطية قادرة على تجديد ومراجعة نفسها، واستيعاب تيار
على يمينها القريب (المحافظون) وآخر على يسارها القريب أيضا (الاشتراكيون أو
الديمقراطيون الاجتماعيون) ولكن الانتخابات الأميركية تظهر اليوم أن الوسط السياسي
(محافظون وديمقراطيون) يتراجع بل وينحسر، ويبدو الصراع بين تيارين متباعدين في
اليمين(ترامب) وفي اليسار(ساندرز) وقد يتمكن الديمقراطيون الوسطيون من إبعاد
ساندرز وترشيح الوسطي جو بايدن، لكن التيار اليساري الجديد سوف يظل قويا ومؤثرا،
ومن مفارقات الانتخابات السابقة أن نسبة كبيرة من مؤيدي ساندرز انتخبوا ترامب؛ لأنهم رأوا في فشل هيلاري كلينتون مكسبا يقلل من خسارة نجاح ترامب، وليس مستبعدا
أن ينشأ في الولايات المتحدة حزبان جديدان، أحدهما يميني منشق عن الجمهوريين، وآخر
يساري منشق عن الديمقراطيين، لأن الخلافات الأيديولوجية في داخل الحزبين صارت
عميقة وكبيرة لدرجة أن الوسط الجمهوري يبدو أقرب من اليمين الجمهوري إلى الوسط
الديمقراطي، وكذلك الأمر بالنسبة للوسط الديمقراطي واليسار.
الظاهرة نفسها تعكسها على نحو آخر الانتخابات
الإسرائيلية، فقد انحسر التيار الوسطي واليساري المؤسس للصهيونية وإسرائيل،
وتتنافس على نحو جذري وعنيف مجموعات سياسية وأيديولوجية وإثنية تعبر عن نفسها بتيارات
وأفكار يمينية وأصولية، وشيء قليل من الوسطية واليسار.
إن الظاهرة الأكثر أهمية في ما يمكن أن تقدمه
الانتخابات العامة (يا حسرتي على الانتخابات العامة في بلادنا!) أنها تحدس
بالمخاوف والأفكار الجديدة والصاعدة، ومؤكد بالطبع أنه في هذه المرحلة الانتقالية
المليئة بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية أن تتغير القيادات والمنظومات السياسية
وقواعد الحكم والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي للأمم.
يعكس ساندرز هموم الطبقات الوسطى والمجموعات
المتضررة والمهمشة في المنظومة الرأسمالية الأميركية، وتنظر هذه الطبقات من أصحاب
المهن والعرب واليهود والأفارقة إلى النخب السياسية من الجمهوريين والديمقراطيين
باعتبارها أوليغاركيا تحتكر النفوذ والموارد وتُنشئ تحالفات مع الشركات الكبرى ضد
مصالح المجتمعات والطبقات الوسطى والفقيرة، وقد انحازت إلى ترامب مجموعات من
الفقراء والخائفين والخاسرين من الأنجلو سكسون والأوروبيين والتيارات الدينية، وفي
المقابل انحازت إلى ساندرز مجموعات أخرى من الفقراء والخائفين والخاسرين، وفي
الوقت الذي تنشط الجماعات الأصولية لحشد أصوات الفقراء «البيض» وأتباعها من
الإثنيات والأصول الأخرى، ينشط العرب والمسلمون لإنجاح ساندرز. لماذا لا يتحد
الفقراء؟ لماذا لا يتحد المتدينون؟
ومما يدعو للتأمل والبحث أن العرب بمن فيهم
الإسلاميون في الولايات المتحدة يغلب عليهم الحماس الكبير للمرشحين الليبراليين في
كل انتخابات تجري، بل إنهم ينشطون ويجرون اتصالات شخصية وعامة، ويستخدمون قيما
واتجاهات دينية لأجل تأييد وانتخاب ساندرز كما أيضا كل مرشح ليبرالي، ويتحالفون في
ذلك بوضوح وعلانية مع جماعات دينية وسياسية وحركات واتجاهات تبدو غير متقبلة بعد
في عالم العرب والمسلمين، مثل اليهود واتجاهات ليبرالية اجتماعية وسياسية ليس
متخيلا في المدى الحاضر أن تحظى بفرصة للعمل والتعبير في عالم العرب والمسلمين،
ومن الملفت أن شخصيات دينية في أميركا تقدم أفكارا وفتاوى متشددة للعرب والمسلمين
في بلادهم، لكنها هي نفسها تبدى اتجاها دينيا واجتماعيا يتقبل الآخرين من غير
المسلمين ودعاة المساواة المطلقة! الأمر الذي يؤكد مقولة إن المصالح الاقتصادية
والاجتماعية تنشئ أو تؤيد بطبيعة الحال اتجاهات وأفكارا ثقافية ودينية واجتماعية.
وبالطبع، فإن التيارات الجديدة من البيئويين
والنسويين والحرياتيين والمساواتيين والتمكينيين يؤيدون ساندرز.
عن صحيفة "الغد"
الأردنية