ما هي الطريقة الأسلم لفض النزاعات الدولية؟ كيف يمكن للدول حل خلافاتها الحدودية والسياسية والاقتصادية والأمنية حتى بشكل سلمي بعيدا عن الاحتكام للقوة؟
مع أن العالم الذي خاضت دوله حربين عالميتين خلفتا ملايين الضحايا، تمكن من إيجاد مؤسسات دولية لفض النزاعات، إلا أن ذلك لم يمنع من الاستمرار في الاحتكام إلى القوة باعتبارها المدخل الرئيس لأي حلول سياسية تضمن مصالح الأطراف المختلفة.
لكن دول العالم الثالث ومنها العالمين الإسلامي والعربي، ظلت خارج القوى المؤثرة في صنع القرار الدولي، وكثيرا ما تحولت هذه الدول إلى مسرح للحرب بين القوى الدولية الراغبة في توسيع نفوذها في العالم، كما هو الحال اليوم في اليمن وسوريا وليبيا والعراق.
وبينما ينظر الخبراء إلى أن المعيار الأهم في تحديد العلاقات الدولية يبقى هو القوة، يعتقد علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي والأديان والنظرية الثقافية أن القوة شرط مهم في تحديد مستقبل العالم، ولكن القوة تحتاج إلى علم، سماه البعض بعلم تسوية النزاعات أو الصراعات كعلم اجتماعي مركب أو عابر لتلك العلوم.
غير أن الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وهو مغربي الأصل، اجتهد في السنوات الأخيرة على تركيب ما قد يصبح الجيل الثاني، أو المدرسة الثانية، لعلم تسوية الصراعات ضمن تركيبية تتوخى التعمق في التحليل والبرغماتية في التدخل، واختار له ، مصطلح "صراعلوجيا"، وهو بصدد عرضه وبحث سبل بنائه من جديد والتأسيس لمدرسة جديدة في هذا العلم، في المؤسسات الجامعية والديبلوماسية والبحثية من أجل ترسيخه كواحد من التخصصات العلمية، ليس لفهم طبيعة الصراعات الدولية وإنما أيضا للوصول إلى حلها بشكل عملي.
ويشرح الدكتور محمد الشرقاوي ذلك في ورقة خاصة أعدها لـ "عربي21"، كالتالي:
سرّني تفاعل عشرات الأساتذة وعمداء الكليات ومئات من طلاب الدكتوراه والماجستير ومراسلي وسائل الإعلام والمهتمين خلال ست محاضرات ألقيتها في المغرب خلال الأسبوعين الماضيين: وشملت المحاضرات أربعة محاور رئيسية: "القانون الدولي بين المعيارية والبراغماتية في حماية المدنيين" في المكتبة الوطنية في الرباط بدعوة من اللجنة الوطنية للقانون الدولي الإنساني، "تقلّبات ميزان القوة في الشرق الأوسط والمغرب الكبير في آفاق 2020" في وزارة الخارجية في ضيافة النادي الدبلوماسي المغربي، "صفقة القرن وتقلبات موازين القوة في العالم العربي في حقبة ترامب" في كلية الحقوق بسطات، و"لماذا يحتاج العالم العربي لصراعُلوجيا كعلم جديد؟" في كليات فاس والدار البيضاء والمحمدية.
أثار محور صراعلوجيا كمفهوم جديد Why the Arab World Needs Conflictology as a New Science اهتمام الباحثين وتدفقت الأسئلة حول ماهيته ودلالته المعرفية ومدى الحاجة إليه في منطقة غارقة حتى أخمس قدميها في الأزمات والصراعات.
كان الحافز الأولي لي هو سؤال راودني منذ مدة عن مدى علاقة عقلنا العربي بفهم الأزمات والصراعات المتنامية حول حدودنا وداخل دولنا ومجتمعاتنا، وقد أصبح العالم العربي بمثابة معرض قائم بذاته من حيث تعدد تلك الصراعات الظاهرة والخفية وطبيعة تعقيداتها وتداخلاتها. وأين يقف النسق الأكاديمي في الجامعات المغربية والعربية من تدريس نظريات الصراع واستراتيجيات الوساطة والمفاوضات والتحكيم وبقية آليات الحد من العنف في مرحلة أولى، وصنع السلام في مرحلة ثانية، وبناء السلام في مرحلة ثالثة؟
ولست أوّل من يسترعي الاهتمام بوجود فجوة معرفية في العالم العربي كمنطقة تعيش نوعا من انفصام الشخصية بين غزارة الصراعات المحلية والإقليمية واستقالة العقل العربي عن صياغة مفاهيم واستراتيجيات عضوية للتعامل مع تلك الصراعات من داخل الثقافة ذاتها، فيما تظل دراسات الصراعات تتدحرج بين أقسام علم السياسة والعلاقات الدولية والحقوق في أغلب الجامعات العربية.
أصل المصطلح ومبررات نحته
صراعلوجيا مزيج من "صراع" و"لوجيا" وفي الأصل اللاتيني "لوغوس " Logos، ويعني الأرضية والرأي والنداء والكلمة والخطاب والسردية. وأصبح "Logos" مصطلحا متواتر الاستخدام في الفلسفة الغربية بدءا من الفيلسوف هيراكليتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد الذي استخدم اللفظ بمعنى النظام والمعرفة.
كتعريف أولي، يمكن اعتبار صراعلوجيا ذروة المعرفة التي تساعدنا على فهم الصّراعات والأزمات والعنف من جميع الأنواع وعلى مختلف المستويات الفردية والعائلية والمؤسسية والدولية. وأقدم أطروحتي كجيل ثان لمدرسة تسوية الصراعات conflict resolution التي تبلورت في السبعينات من القرن الماضي كعلم اجتماعي قائم بذاته وعابر للتخصصات بين علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع والأنثروبوجيا وعلم السياسة والاقتصاد وغيرهم. وأصبحت جامعات جورج ميسن وجورجتاون ومينونيات وسان دييغو في أمريكا وجامعات برادفورد وكِنت وغيرها في بريطانيا تمنح شهادات الدكتوراة والماجستير والإجازة في هذا العلم.
أرمي بصراعلوجيا إلى رسم دائرة أوسع للبحث، وتنويع أدوات التحليل، وتسليط الضوء على مناطق جديدة في سلوك الإنسان ووعيه، وحتى لا وعيه، على أساس القيام بأكبر مجهود من التمحيص والتحري، وأن الظاهرة قد تبدو غير قابلة للتفسير ما لم يكن هامش المراقبة واسعا بما يكفي ليشمل السياق الذي يحدث فيه الصراع. ولا يقتصر على مجال العلوم الاجتماعية فحسب، بل يستوعب أيضا جميع المعارف البشرية العلمية والعقلانية والمعرفة الحدسية والعاطفية. وتتم دراسة جميع هذه المعارف والقدرات أيضا من منظور البيولوجيا، والطب، وعلم الأعصاب، والمذاهب الصوفية، وتوجهات المنطق وكل تلك الطرق التي تسهم في الشعور بسلامنا الداخلي: السلام العقلي والنفسي والعاطفي. وفي الوقت ذاته، يجسّد صراعلوجيا خلاصة وافية من تقنيات التحوّل والتدخّل والمعونة والموارد والإجراءات. ويهدف إلى تكوين باحثين وممارسين ميدانيين متشبّعين برؤية برغماتية من أجل الحدّ من الصراعات وحفظ السلام في شتى بؤر الصراع في العالم. انطلق من سبع مفارقات وأربع اعتبارات إبستمولوجية.
سبع مفارقات واقعية
تنمّ المفارقة الأولى عن حقيقة أنّ الجغرافيا السياسية العربية تفرّخ بؤر صراع محتدمة بوتيرة أسرع وأحجام وتعقيدات مختلفة في السّنوات الثماني الماضية، أسمّيها مفارقة الحدود المسمومة، ونحن أكثر شعوب الأرض تكريسا وتشبّعا بالمؤامرات والأحقاد ومآسي الشعوب واحتماء بالدول العظمى بموازاة استمرار ضعف الدولة الوطنية مما جعل صحيفة كريشتيان ساينس مونتر الأمريكية تتساءل "لماذا يهرع العالم العربي للانضمام إلى صراع متعدّد الجنسيات؟".
تكمن المفارقة الثانية في الأعداد الهائلة للضحايا المدنيين في ليبيا واليمن وسوريا والعراق من قتلى ومفقودين ومشردين ولاجئين. لدينا رقم قياسي آخر عندما تُؤوي المنطقة العربية، أكثر من غيرها، دولا هشّة أو فاشلة أو متأرجحة بين المنزلتين. وكشف مؤشر الدول الهشة الذي يصدره صندوق السلام منذ ستين عاما أن اليمن كان الدولة الأكثر هشاشة عام 2019، وجاءت الجزائر في المرتبة الثانية والسبعين بتراجع 0.4 عن عام 2018، والمغرب في المرتبة الثامنة والسبعين بتراجع مرتبة واحدة عن العام السابق، وتونس في المرتبة الخامسة والتسعين بتراجع مرتبتين على القائمة التي شملت 178 دولة تناولها التقرير.
تأخذنا المفارقة الثالثة إلى الأراضي والمياه الإقليمية في الخليج أكثر من المحيط، حيث تنتشر القواعد العسكرية الأجنبية وتتحرّك الغوّاصات وناقلات الطائرات الأمريكية والبريطانية والرّوسية والفرنسية والإيطالية، وحتّى الصينية، فيما تتقاطع مشاريع التحكّم والهيمنة بمقاسات مختلفة. فحقّق العالم العربي مرتبة متقدمة في كتاب غينيس للأرقام القياسية بأن استقطب خمسين قاعدة عسكرية أجنبية، تسعٌ وعشرون منها أمريكية. ووصل عدد الجنود الأمريكيين المرابطين فيها قرابة مائة ألف رغم تلويح الرئيس ترامب بضرورة الانسحاب العسكري من المنطقة، بينما يحرص جنرالات البنتاغون على إعادة الانتشار وفق التحولات الميدانية خاصة في سوريا وحول إيران.
أرمي بصراعلوجيا إلى رسم دائرة أوسع للبحث، وتنويع أدوات التحليل، وتسليط الضوء على مناطق جديدة في سلوك الإنسان ووعيه، وحتى لا وعيه،
يمكن تحديد تعريف أولي لصراعلوجيا بأنه ذروة المعرفة التي تساعدنا على فهم الصّراعات والأزمات والعنف من جميع الأنواع. وفي الوقت ذاته، يجسّد خلاصة وافية من تقنيات التحوّل والتدخّل والمعونة والموارد والإجراءات. ويهدف إلى تكوين باحثين وممارسين ميدانيين متشبّعين برؤية برغماتية من أجل الحدّ من الصراعات وحفظ السلام في شتى بؤر الصراع في العالم. ويحاول رسم دائرة أوسع للبحث، وتنويع أدوات التحليل، وتسليط الضوء على مناطق جديدة في سلوك الإنسان ووعيه، وحتى لا وعيه، على أساس القيام بأكبر مجهود من التمحيص والتحري، وأن الظاهرة قد تبدو "غير قابلة للتفسير ما لم يكن هامش المراقبة واسعا بما يكفي ليشمل السياق الذي يحدث فيه الصراع. ولا يقتصر على مجال العلوم الاجتماعية فحسب، بل يستوعب أيضا جميع المعارف البشرية العلمية والعقلانية والمعرفة الحدسية والعاطفية. وتتم دراسة جميع هذه المعارف والقدرات أيضا من منظور البيولوجيا، والطب، وعلم الأعصاب، والمذاهب الصوفية، وتوجهات المنطق وكل تلك الطرق التي تسهم في الشعور بسلامنا الداخلي: السلام العقلي والنفسي والعاطفي.
وينبني هذا الصراعلوجيا على المدرسة التقليدية المعروفة بفض أو تسوية الصراعات وتتمسّك بأنّ فضّ الصراع حسب مقوّماته التي تبلورت منتصف القرن العشرين علم اجتماعي يُراعي الخصوصيات المحلية، وتأثير العوامل العائلية أو القبلية أو المجتمعية أو الدينية أو التاريخية وكل التركيبة الثقافية، وتباين طبيعة الصراعات عن بعضها بعضا من حيث فهم كلّ طرف لطبيعة الصراع وأسبابه الجذرية برؤى ذاتية متضاربة في الغالب وليست موضوعية واحدة. ويستحضر أيضا مراعاة خصوصية المعرفة التي تتأتّى من العلوم الاجتماعية، وتكمن في أنها تتعلّق بالمجتمع وأنّ علماء الاجتماع يرتبطون بطريقة ما بالمجتمع الذي يشكل موضوع تحقيقهم. وتساهم العلوم الاجتماعية في تطوير الأحكام، مما يعني أنّها لا تقترح حلولًا للنزاعات فحسب، بل تصبح تلك الحلول المقترحة جزءًا من الالتزامات النظرية أو الإيديولوجية لعلماء الاجتماع.
يمكن تحديد تعريف أولي لصراعلوجيا بأنه ذروة المعرفة التي تساعدنا على فهم الصّراعات والأزمات والعنف من جميع الأنواع.
ملاحظات منهجية عن الوجود والجذع المشترك بين الفلسفة والدين
أهم تحولات التيارات السلفية في المغرب (2 من 2)
أهم التحولات الفكرية للتيارات السلفية في المغرب (1 من 2)