ربما يكون الصراع الذي حصل فوق سوريا وما زال من الحالات القليلة تاريخيا التي تبرز كيف تتورط دول عدة في صراع لا تعرف نهايته. ماذا يريدون منها؟ لماذا هذا الصراع فوقها؟ أسئلة كثيرة طوال سنوات خلت ضمن هذا المنحى طرحها السوريون، وشاركهم فيها كثير من شعوب العالم الذين تابعوا ما حصل في سوريا خلال السنين التسع الماضية. الأجوبة كانت متقاربة أحيانا، ومتناقضة أحيانا، حسب منطلق وخلفية المجيب.
هي سوريا في عامها العاشر، دموية وتوحش صبغ أزمتها، لم يقتصر على أحد بل شمل الجميع ومعهم الدول الداعمة لهذا الطرف أو ذاك، وتحول الصراع من صراع سوري داخلي إلى صراع إقليمي، لينتهي الوضع إلى ما هو عليه الآن؛ ساحة مُباحة ومستباحة للصراع الدولي، بالإضافة إلى الصراعين الداخلي والإقليمي. وهكذا، تحول الصراع إلى صراع محلي إقليمي دولي مُرَكَّب، يشمل الجيوش والمليشيات، وأصبحت المشكلة الآن ليست في إنهاء الصراع في سوريا فقط، ولكن في القدرة على حصره داخل حدود سوريا الدولية، ومنع انتشاره أو امتداد آثاره إلى الأقطار المجاورة.
تحليل الحقائق
نحاول هنا الإجابة من خلال تحليل الحقائق في عمقها وليس حسب شكلها، أي ليس حسبما يقوله السياسيون أو الإعلام، وبناء نظرية متسقة مع ذاتها ومع ما حصل في سوريا والمنطقة والعالم، ولأنه صراع فوق سوريا وليس على سوريا، بمعنى أن الصراع الدولي فوق سوريا ليس بسبب ما تملكه سوريا من موارد طبيعية أو سكانية، مثلما يمكن القول حول الصراع على العراق إبان حربي الخليج.
الصراع يعود بأسبابه الأولى إلى موقع سوريا الجغرافي وسياسة الأسد الأب والابن، اللذين مَرْكَزا بلدهما كحليف استراتيجي للنظام الإيراني والروسي، ذلك ضمن عملية الصراع الطويلة هذه على جبهة الخليج العربي، وجبهة السوق الدولي في مواجهة العقوبات الغربية، استخدم النظام الإيراني الأداة الدينية الشيعية، مثلما استخدم الآخرون الأداة الدينية السنية، لكن كلا الطرفين مستعد لرمي أي معيار ديني عند تعارضه مع المصلحة المباشرة.
على الخط، جاء دخول روسيا القرن الواحد والعشرين كوريث للاتحاد السوفيتي شابه الكثير من التعقيدات بسبب الحمل التاريخي، فالمعسكر الغربي لا يمكنه الاستكانة أبدا إلى أن خطر الروس العكري قد زال، ولا روسيا استطاعت التخلص من الشك المقيم في نوايا الغرب تجاهها. في بداية الألفية الثالثة بدأت روسيا تتعافى من زلزال انهيار الاتحاد السوفييتي، لتجد نفسـها أمام اقتحام سريع لدول أوروبا الشرقية من قبل حلف الناتو، وأمام توسع أمريكي عسكري في أفغانستان والعراق، إضافة إلى محاولات أمريكية حثيثة لدخول دول وسط آسيا وبحر قزوين.
بالبحث عن الموقف الصيني، نجدها قد استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي منذ العام 1968 إلى العام 2010 خمس مرات فقط، فالصين كانت وما زالت ليست دولة صدامات مباشرة حامية، إلا ما خص موضوع تايوان، لكنها في العام 2011 استخدمت الفيتو 3 مرات متتالية بالتشارك مع روسيا لصالح النظام السوري. هذا الموقف الصيني الواضح في دعم النظام السوري، يمكن فهم بعض دوافعه من خلال النقاش السابق، فالصين تشارك روسيا في العديد من مصادر الاهتمام والقلق، وبالذات يتشارك البلدان في الهم الجغرافي المتمثل بخاصرتهم الضعيفة الممتدة من منطقة وسط آسيا وبحر قزوين، وصولا إلى إيران.
كان الموقف الخليجي مترددا في بداية اندلاع الثورة في سوريا، وخاصة الموقف السعودي الذي كان ميالا أكثر لبقاء الوضع كما هو، خاصة بعد سقوط نظام مبارك في مصر. لكن بعد أن تبيَّن أن النظام السوري لن يتراجع عن استخدام العنف المفرط في مواجهة الشارع ولن يتنازل عن أي من سلطاته، ولأن الموقف الغربي كان ميالا لمعارضة النظام الأسدي، انتقل الموقف السعودي والقطري والخليجي عموما للوقوف ضد النظام السوري. أما السبب الأهم، فهو الفرصة التي رأتها دول الخليج في سحب سوريا من السيطرة أو الحلف الإيراني.
علاقات ممتازة قبل الثورة
هنا جاء دور الجوار الشمالي، فقد كانت علاقات (تركيا – أردوغان) مع سوريا والنظام الحاكم ممتازة قبل الثورة، لكنها لم تصل لمرحلة الحلف الاستراتيجي مثل علاقة سوريا بإيران؛ مع اندلاع الثورة ولأن الحكومة التركية توصلت لقناعة أن عنف النظام المفرط لن يكون بصالحها، وقياسا على نجاح ثورة مصر ووضوح ميلان الكفة لصالح الإخوان المسلمين في صيف 2011، قررت تركيا الانتقال بشكل كامل للعمل ضد النظام الأسدي، بالتحالف مع قطر وبالتنسيق مع السعودية، بالإضافة لتلقيها تشجيعا من المعسكر الغربي.
في الوسط لا توجد مصالح أمريكية مباشرة في سوريا، باستثناء تلك المرتبطة بحماية الأمن الإسرائيلي؛ لذلك فإن الولايات المتحدة والدول الغربية وكذلك إسرائيل قررت منذ 2011 متابعة تطورات الأزمة السورية وإدارتها. فالأزمة السورية بالنسبة للسياسة الأمريكية هي بؤرة استنزاف للأعداء في المنطقة، واحتفاظها بدور المدير والمراقب يعطيها أوراق قوة ضد الجميع، بما في ذلك حلفاؤها الخليجيون والأتراك.
كل هذه الدول مع كل المصالح التي ذكرناها، لو أنها رأت في العام 2011 وبداية 2012، أن هذا الصراع سيستمر بهذه الوتيرة وهذه التكاليف لكانت غيرت سياستها كاملة، ولربما فضلت التراجع أو التهاون في مواقفها والبحث عن حلول أقل كلفة. لكن ما حصل أن كل الدول الإقليمية بالإضافة لروسيا لم تمتلك في البداية تلك الخبرة وبعد النظر لترى إلى أين ستسير الأزمة السورية. لقد تورطوا منذ البداية بالتدخل الحذر البسيط، سواء مع أو ضد النظام الأسدي، لكنهم بالتدريج رأوا أنفسهم يغوصون أكثر فأكثر في مستنقع الحرب والصراع، وكلما مرّ الزمن أصبح التراجع أصعب، إلى أن وصل الصراع إلى حافة اللاعودة في 2015، حينها قررت روسيا التدخل المباشر في سوريا.
يبقى أخيرا أن نشير إلى أن ما يجرى الآن فى سوريا لم يعد صراعا (سوريّاــ سوريّا)، أو (سوريّاــ عربيّا، أو سوريّاــ إسرائيليّا، أو سوريّاــ أمريكيّا)، بل هو صراع (أمريكي- روسي) على الأرض السورية وليس من أجلها، بل من أجل استعمارها جزئيا أو كليّا، ومن أجل استعمالها لبسط النفوذ على دول الجوار، أو لإعادة هيكلة الإقليم (الشرق- أوسطي) مجددا، فما حصل مع كل الدول الإقليمية وروسيا، هو أنهم ساهموا بإشعال كرة نار حسبوها صغيرة ويستطيعون التحكم بها، لكنها تحولت كرة نار ضخمة تزداد استعارا، والمنتصر النهائي، إن كان هناك واحد، هو من يستطيع إبعاد نيران هذه الكرة المتضخمة. وحتى يحدث ذلك، تظل سوريا مع عشريتها السوداء في دوامة الصراع الدولي فوقها وليس عليها.
(القدس العربي اللندنية)