اجتاحت
الأوبئة الفتاكة المجتمعات البشرية على مدار تاريخها، وأحدثت ما أحدثت من تغيرات ديمغرافية، أو تطورات طبية، لكن هذه هي المرة الأولى التي يجتاح فيها وباء العالمَ بعد ظاهرة العولمة التي جعلت الحدود مجرد إطار سياسي وقانوني للدولة، لكنها لا تمنع من التواصل على أي مستوى آخر. كما أنها المرة الأولى التي يجتاح فيها وباء العالم بعد ظهور العلاقات الدولية كعلم مستقل، استتبعته تطبيقات عملية وتنظيرات فلسفية تبرر الهيمنة في إطار مفاهيم التبادل الثقافي ووَحدة الأسرة الدولية. وهذان العاملان (العولمة وتطور العلاقات الدولية تنظيرا وتطبيقا) يجعلان
ظهور وباء عالمي هذه المرة، ليس كأي مرة سابقة.
يُعدّ التطور الطبي في اكتشاف لقاح فعال ضد الفيروس المميت أمرا شبه مفروغ منه، والسؤال المهم: متى سيخرج اللقاح للنور؟ وهل سيتزامن خروجه مع الاعتبارات الطبية، فقط أم ستتدخل عوامل سياسية واقتصادية في قرار خروجه؟ ففي ظل التوحش الذي أصاب قادة العالم أصبحت التساؤلات المرتبطة بالأخلاق محل اعتبار، كما أصبحت الأخلاقيات السياسية محل شك كبير نظرا لسيادة أفكار لا أخلاقية تربط العلاقات الدولية بمفاهيم القوة والمصلحة الوطنية فقط، دون الأخذ في الاعتبار المنحى الأخلاقي في السلوك السياسي.
على خلفية مقال الدكتور حسن أبو طالب في صحيفة الشرق الأوسط "عالم ما بعد
كورونا ودورة جديدة للتاريخ"، يمكن القول إننا سنشهد بعد كورونا جدالات فكرية وفلسفية حول مساحات الحرية الخاصة أمام الخطر العام على خلفية الإجراءات الصينية، خاصة ما يتعلق بالتوسع في استخدام التكنولوجيا وقت الخطر في رقابة السكان. ثم هناك جدالات أخرى حول دور الدولة في الرعاية الصحية وتوفيرها واستعدادها وقت الأزمات، ومساحة تدخّلها في عمل الجهات الصحية الخاصة، وبالضرورة ما يتعلق بالتكاليف المادية للمرضى أو عدد الأسرّة. وربما يكون مصب هذه الجدالات في النهاية متعلقا بمفاهيم الحرية المطلقة والشمولية، ومدى إمكانية المزاوجة بينهما، بحيث لا تطغى مفاهيم حرية الأشخاص وحرية تداول رأس المال على الصالح العام، وفي المقابل لا تطغى رقابة النظام السياسي أو تدخلاته على الحقوق الأساسية للأفراد.
من جهة أخرى، هناك تساؤلات أعمق، حول أخلاقية وجدوى العمل على تطوير الفيروسات بغرض العدوان، فإذا كانت القنابل الفتاكة ينحصر ضررها على موقع القصف ومحيطه، فإن التحكم في نطاق عمل فيروس في الحروب البيولوجية غير ممكن أبدا، لأن الأفراد يتنقلون باستمرار، والعدوى تنتقل بسهولة، وأخلاقيات العلم والعلماء لا تتغيّا العدوان ونشر الأوبئة والدمار، لكن الثقافات المعاصرة تطرفت في العدوان وتطرفت في الاجتماع ورغم حصادها الدائم والمستمر لآثار ما تقدمه، فإنها لا تزال في غيّها الآثم، وبحثها العلمي المذموم. وهذه النقطة تُثار بسبب الخطاب الأمريكي عن "
الفيروس الصيني"، والخطاب الصيني المقابل عن إغلاق مختبر "fort detrick" للأبحاث عن الجراثيم والفيروسات التابع للجيش الأمريكي.
وضعت جائحة كورونا كذلك المبادئ الأخلاقية المزعومة محل اختبار، إذ ادعاء النزاهة والشرف يكون سهلا حال اليُسر، أما الشدة فهي التي تظهر مدى صلابة القيم المزعومة، وقد بدأت النتائج السلبية لادعاء القيم تظهر. فدولة التشيك العضو بالاتحاد الأوروبي، الذي يجعل التضامن أحد مبادئه الأساسية، قامت بالاستيلاء على كمامات مرسلة من الصين إلى إيطاليا المنكوبة أكثر من أي دولة في العالم، وصربيا التي بلغت مراحل متقدمة في مفاوضات انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، اشتكى رئيسها من
التجاهل الأوروبي للمساعدات الطبية، حتى إيطاليا المنكوبة تحدث سفيرها في الاتحاد عن رغبة بلاده في الانتقال إلى المساعدات بدلا من الاكتفاء بالمحادثات. فالعالم الآن يمر باختبار حقيقي لمدى تجذّر القيم المعلنة في الوجدان الإنساني، ولا يبدو أن نتائج هذا الاختبار ستكون إيجابية، وستعلو قيمة المصلحة القومية على كل القيم، كما أُغلقت الحدود بعد وصف العالم بأنه قرية صغيرة.
أما على المستوى المحلي، فالجائحة لدينا في
مصر أخلاقية قبل أي شيء آخر، فلا توجد شفافية في إحصاء الأرقام، ويوجد تمييز في الإعلان عن حالات الوفيات بين المدنيين (العالة على المجتمع) وبين
قيادات الجيش (الأبطال في ساحات المواجهة مع الفيروس)، كما تنتفي الأخلاقيات مع المحتجزين سواء كانوا سياسيين أو جنائيين؛ فبينما قامت دول عديدة بالإفراج عن عشرات الآلاف من المحتجزين، يرفض نظام السيسي أن
يفرج عن بعض المعتقلين، وهذه فرصة ذهبية لدى الأنظمة السياسية الواعية لتخفيف الاحتقان السياسي، قبل الأخذ في الاعتبار الوقاية الصحية، لكننا أمام شيء جديد لا يشبه الأنظمة السياسية في حكمها، ولا الأنظمة المستبدة في مراعاة التوازنات، نحن أمام مسوخ من الشخصيات ونُظم الحكم والإدارة.
هذا المرض يمكن أن ينتقل إلى السجون عبر أفراد الأمن الذين يخالطون الناس في الشوارع، ومع انتشار عدم الوعي، واستكبار رجال النظام السياسي عن التعامل مع وزارة الصحة فيما يخصهم. قد ينتشر الفيروس بين السجناء كانتشار النار في الهشيم دون مبالغة، فالظروف المعيشية في قمة السوء، والظروف الصحية غير مناسبة، والنظام يتعمد قتل المعتقلين بالإهمال الطبي، لكن الجائحة إذا دخلت السجون فستطال الجميع دون تمييز، وستشعل النار في قلوب ذوي المعتقلين بعدما انكسرت حرارتها من مرارة السجن والقهر، وستفتح أبواب الجحيم على الجميع دون تمييز.
ربما أصبح هناك اتفاق أن العالم لن يعود كما كان بعد هذا الوباء، وهذه فرضية مبكرة، لكنها مدعومة بكل السلوكيات المشينة التي ارتبطت بنشأة الفيروس وتطوره ليصبح وباء عالميا للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية التي غيرت وجه الأرض، وتعاني الدول العظمى من هذا الوباء بعدما كانت محصنة من الكوارث الطبية بخلاف الدول الفقيرة التي طُحنت (ولا تزال) بأمراض كالملاريا والكوليرا، وتهديد هذه الدول العظمى أثّر على سلوكياتها، الأمر الذي سيؤثر بالضرورة على مسار العلاقات الدولية، وسنظل نحن على هامش التغيرات الكبرى حتى ننتصر في معركتنا مع الاستبداد.