بينما العالم منغمس في الظلمات التي بعضها فوق بعض، من حروب
مدمرة، وحقوق إنسان منتهكة، وقتل وسفك للدماء وحصار وسجون، ومجون باسم الترفيه، وظن
الأقوياء أن الأرض أخذت زخرفها وازينت لهم، وظنوا أنهم قادرون عليها، جاء هذا الوباء
(
كورونا) من حيث لم يحتسب الجميع.. هذا الوباء الذي لم يتوقف تهديده على صحة الإنسان
ووجوده فقط، بل امتدت إلى حياته
الاقتصادية لتنهكها بصورة متتالية، وتصيبها كذلك في
مقتل.
إنه مما لا شك فيه أن حصار هذا الوباء يتطلب حجرا صحيا لمنع
انتشاره، ولكن هذا
الحجر الصحي أيضا له تبعاته الاقتصادية التي تتوقف على مدة الوصول
لعلاج لهذا المرض. فهذا الحجر الصحي معناه جيوش من
البطالة وإفلاس للمزيد من الشركات،
ومع مرور الوقت قد لا يجد من في الحجر الصحي قوت يومه لا سيما العاملين باليومية، وقد
يدفع ذلك البعض إلى الاختيار بين البحث عن الموت بكورونا وهو في سعيه لتوفير قوت يومه،
أو الموت جوعا وهو في بيته، أو انتحارا (والعياذ بالله) من الاكتئاب والإحباط الذي
يفتك به لا سيما مع نفاد أمواله.
وهذا الأمر يعكس أهمية دور الحكومات في تلك المرحلة، فهي
راعية ومسؤولة عن رعيتها، فإذا كانت البنوك المركزية أخذت خطوات إيجابية بتخفيض سعر
الفائدة حتى وصل نحو الصفر، وفي مقدمة ذلك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا،
وذلك للإسهام في تحريك عجلة الإنتاج، من خلال تشجيع الإقتراض سواء أكان انتاجيا أو
استهلاكيا، فإن هذا القرار وحده لا يكفي في ظل المخاطر الاستثمارية العالية أمام المستثمرين
من جراء هذا الوباء، والمدة الاحتمالية للسيطرة عليه، ومع ذلك فإن الاقتراض الاستهلاكي
بالطبع سيتوجه نحو السلع الضرورية. وفي ظل تلك الظروف فإن القروض الاستهلاكية لن تجدي
نفعا بصورة فعالة، لا سيما وأنها قد لا تكفي احتياجات الناس، وقد لا يجد مقترضوها ما
يسددون به تلك القروض في ظل
جيوش البطالة.
وهذا ما يبرز دور الحماية الاجتماعية والحياتية للشعوب من
قبل الحكومات، فلا بد للحكومات أن توفر السيولة اللازمة لتوفير الاحتياجات الضرورية
للناس، ولو في صورة قروض تقترضها الحكومة، وتمنحها في صورة قروض حسنة لرعاياها، سواء
كانوا أفرادا أو شركات، مع اشتراط على الشركات بالمحافظة على العمالة وعدم تسريحها.
وهذا أخف الضررين بدلا من فقد الناس وظائفهم وأعمالهم وإفلاس الشركات. ويمكن للحكومة
سداد تلك القروض لاحقا من خلال الضرائب، لا سيما على الأغنياء بعد زوال هذا الوباء
واستقرار الاقتصاد. ولا يصح أن تغيب الحكومات وتترك شعوبها تواجه مخاطر المرض والفقر
والموت، خاصة وأن هذا العلاج وقتي مرتبط بأزمة أو جائحة، وهو دواء مر، لكن لاىبد من
تناوله للحفاظ على البلاد والعباد.
إن الوقاية الاقتصادية مطلوبة جنبا إلى جنب مع الوقاية الصحية،
وهذا أيضا يحتم على الحكومات استخدام السياسة المالية لخدمة شعوبها، بتأجيل الضرائب،
واستخدام سياسة الإنفاق لتشجيع الطلب على السلع والخدمات. فإنتاج المصانع والمؤسسات
بجزء من طاقاتها خير من عدم إنتاجها على الإطلاق، ومن ثم انضمام جدد إلى جيش البطالة.
وقد حرصت الدول الغربية وبعض الدول الخليجية على
دعم الإنفاق
بصفة عامة للوقاية من الدخول في مرحلة ركود ومن ثم مرحلة
كساد لا يبقي ولا يذر. وفي
هذا الإطار أقرت إدارة الرئيس الأمريكي ترامب
حزمة تحفيز بتريليوني دولار من أجل امتصاص
التداعيات الاقتصادية الفيروس، شملت شيكات بأكثر من ألف دولار للأمريكيين، فضلا عن 50 مليار
دولار لشركات الطيران التي تواجه شبح الإفلاس و367 مليار دولار قروضا للشركات الصغيرة.
إن الاقتصاد العالمي يشهد تقليصا للعرض الكلي والطلب الكلي
نتيجة وباء كورونا، لانخفاض وتوقف الإنتاج، وانخفاض الطلب على السلع والخدمات بصورة
ملحوظة. واستمرار الأزمة يعني انهيارا للطلب، وهو ما يعني الدخول في مرحلة ركود ومن
ثم كساد. وكل ذلك يتوقف على طول مدة الوباء واكتشاف العلاج الناجع صحيا له، وقد تناولت
التقديرات لسياسيين وكذلك لمسؤولين في منظمة الصحة العالمية أن اكتشاف علاج لكورونا
يتراوح ما بين ستة شهور لعام ونصف، وهو ما يعني أن الاقتصاد العالمي قد يدخل في مرحلة
كساد، وقد يحتاج الأمر إلى ثلاث سنوات لتعافيه.
ويبقى التأكيد على أنه رغم الترجيح باكتشاف علاج لهذا المرض،
ومن ثم انخفاض معدل الوفيات، ولكنه لن يختفي كورونا بعد اليوم من حياة البشر، وهو ما
يتطلب من الحكومات أيضا التخطيط لذلك من الآن.